Friday, 10 January 2020

وجاء.. الذئب


   


  بدت الضيعة  هادئة ..هدوء النفس في وحدتها وبدا البيت في وسط الضيعة تملؤه السكينة، كان كل شيء يبدو على ما يٌرام، انه سحر الربيع ونشوة الاخضرار في وسط طبيعة منحها الله كل آيات الجمال والهدوء والصفاء، كنت حينما أتفقدها وأروح وأغدو بين جَنَبَاتِها أنسى كل هموم ومهالك المدينة، لا أنسى أنني كنت حين أغرق في غيبوبة القلق وأتنفس عفن الضجة والزحام، وتتكالب عليّ أفكار الغطرسة والشرور، وحينما تتآمر السخافة والأحزان على نفسي المشبوبة، اهرب بكل حب إلى ضيعتي، وأنفذ بجلدي كي لا أصاب بحمى الهلوسة وسط الضجيج، أجد الضيعة الحنون تفتح ذراعيها لملاقاتي وتفرح الأزاهير وتنبلج الشموس فرحا بقدومي، وترقص الحقول والتلال وتترنم الأشجار بهجة وسرورا، وتغرد الطيور في السماء وفي أوكارها. تزهو لأنها تشتم رائحتي فهي تحن للقاء الأهل والأحباب. 
الوادي والهضاب وكل شيء يتنفس غبطة وسعادة، ليتني أبقى دائما هكذا فرحة سعيدة، وليت الحقول والوديان والأشجار والأزهار تبقى مترنحة بقدومي.. وبسط الربيع على الحقول أزاهيره فكأنك ترى فراشا مزركشا بألوان بديعة تفتح لك شهية البوح بكل ما هو جميل.
لم يكن هناك شيء يدعو إلى الخوف، كل شيء كان يبدو هادئا حتى في ظلمة الليل، يا الله هذا الهواء المنعش حينما تجود السماء بحبيبات الكريستال الجميلة شعور رائع لا يضاهيه شعور، هدوء وسكينة، تشبه وقار الرجل في وحدته وهيبته. كنت حينما ينزل الغيث تتبلل التربة وترقص حبات الماء فوق أوراق النباتات والثمار اشعر برغبة شديدة في الغناء والمرح كما فراشة. وكأنما الاضطراب وعدم الثبات ألقىَ بسلاحه ورفع رايات الاستسلام، ولكن رفعها بكل حب وفي جو يملؤه الأمان.
كنتُ ولازلت دائما أبحث عن الراحة والهدوء وكأني بروحي تأبى الصراع، وكأني بقلمي يمقت تدوين الماسي، وكأني بنفسي تهرب من كل ما هو داعٍ للفوضى والقنوط!
كلما حاولت الكتابة عن الماسي تبدو لي كتابتها شيئا مقدسا، حاجة لابد منها ورغم ما تحمله من مرارة وشجن إلا أنني أحاول الكتابة بشغف وبشيء من المتعة علُّ هذا يخفف وطأة الأحداث والماسي تلك، وأجدني أنقاد إلى الكتابة وخط سطور لم أكن يوما لأتخيل أحداثها لولا عظمة ما يحدث، وفي تلك اللحظات من الانقياد إلى مملكة البوح يعتريني شعور الحب والترحاب والتقديس ولا يخالط أيُ شعور آخر نفسي فتنغص علي تفوّقي وانتصاري على ماسيَ وانكساراتي! 
أحبُّ.. أحبُّ كل شيء في ضيعتي هته، ضيعة الأب والأجداد، وأسطورة الحُبّ والإصرار، حكاية الصبر والتجلد، اختزال التاريخ والحضارة، ألف حكاية وحكاية عن نواعير الحب وسدود العشق وانهار الجمال وقلاع الثقافة والعزّ.
هي ضيعتي ومحرابي الذي أضيع فيه وأفرغ جنوني وغضبي، والمحفّز الدائم لنجاحي وفرحي، والسحر الذي أستمدّ منه قوتي وقوة طموحاتي.
أبي الذي وبحكم تجربته الطويلة والزاخرة، وحكمته التي ألفها في والده وأجداده، الأب الذي ألّم بكل أسرار الغابة والحياة الصعبة في كنف الطبيعة الهادئة الثائرة في ذات الوقت. الطبيعة التي واجهوها آناً، وتغلبت على خبرتهم آناَ آخر.
بدا الهدوء في ذلك اليوم تعتريه بعض الغشاوة غير المفهومة وربما تلك السكينة تنبئ بحدوث شيء ما، والحياة رغم ذلك تدبّ داخل البيت المتواضع في وسط الضيعة.. وفجأة تغيّر كل شيء في لمحة بصر.. وأنقلب ذلك إلى الهدوء إلى فزع وتلك السكينة إلى خوف، بل إلى الرعب خاصة وأن الموجودين في البيت لم تعد لهم القوة على مواجهة مثل هذه المواقف بكل تلك الشجاعة والإصرار والتقدم الذي عهدناه فيهما.


مرَّ أسبوع على تلك الحادثة التي أحدثت ضجة في نفوسنا وجعلتها حديث الساعة لأيام عدة، والكل يبدي أرائه ومواقفه.
.. وجاء الذئب.. ولم ينتبه لمجيئه أحد، لأنهم لم يتوقعوا غدره ومداهمته، دخل الجاني على نفسه، وأستغل ذلك الهدوء وقام بفعلته الشنيعة والتي تعد بطولة وانتصارا في نظره لأنه حَضِيَ بصيد وفير هذا اليوم، سبعة من الحمل، الحمل تلو الحمل، يشقُّ هذا وينبش ذاك، حتى أردى الكل ققتلى
 ولم يُسمع سوى أنينهم في رحلة الموت بأبشع الطرق، من أين ابتلوا بهذه المصيبة يا الله! لعمري كانوا مبسوطين بين أحضان أمهم الرحيمة الرؤوم، كانوا يُؤنسون أصحاب البيت، حتما انك تشعر بالأمان وهم يحيطون بك.
وجاء ابن الغدر وغدر بهم، فلم يُجدهم التضرع ووجدوا حالهم محاصرين راضخين مستسلمين لبشاعته. يا له من ماكر خدّاع! يأتي على الفريسة فينقضّ عليها، ولا يرحمها، وكأنه خرج من سجن قضى فيه نصف عمره جائعا، وكأنه رهينة رُهاب نفسي خطير، مدمر مُنِعَ فيه من المأكل والمشرب والحرية الزائفة، وكأنه جُبِل على الغطرسة والمباغتة والغدر.
وعمت الفوضى سكون الضيعة والهدوء وانتاب الكل مرض الاشمئزاز من ابن الغدر، يخرج من هنا، لتجده هناك، ويختبئ كاللص هنا ليداهمك هناك، ويغفل تارة فتظن انك ظفرت به، ليفاجئك بمكره تارة أخرى.
وهكذا منذ وقت العصر وحتى المغرب وحلول الظلمة وبعد أن أسدل الليل ستائره على الضيعة الهادئة  وصاحب الفعلة الشنيعة لا يزال يساوره أمرٌ ما لم يفهمه احد من أهل ذلك البيت الهادئ في وحدته، والأنيس بوقاره، كان يبحث عن شيء ما، لكن أحد لم يستطع فهم غايته لينظر وينظر ولا تفهم نظراته، قاومه الجميع كما تقول أمي، ولكن هيهات أن يفهم بأنه لا مكان له وسط هذا الهدوء والطمأنينة.
ضُرِب بالعصا وتكسّرت نصفين وما أثر فيه ذلك! ثم ضرب بالقادوم ولم ينته ؟ ترى ماذا يريد بعد هذه الحرب الشعواء التي شنّها على نفسه؟
ألم يفهم بعد أنه لا مكان له هناك، بل عليه ألاّ يعيد الكَرَّة مرة أخرى، كان وجهه كله ملطخا بالدماء، كان يمشي وكأنه أصيب بداء الكلب فأخذ بعاقلته وجعله كالمجنون يموج بين الحقول تلطمه الأحجار مرة، يغلبه غباءه وتطفّله مرات!
هذا الأبله ترى ما الذي جاء به إلى هنا، إلى حيث راحة النفس ترتاح، وهدوء الليل يهدا، وسكينة الروح تسكن وتطمئن!
تعجبُ حقا من مراوغته، يذهب بحملٍ هنا ولا تلتفت حتى تراه يأخذ الآخر هناك، فكيف لك أن تلحقه وما هو سبيل ردعه؟ فأنت تلمحه أمامك وما إن تغفل إلا وأنت به يداهمك من الأمام وكان الخوف الأعظم أن يصبّ جامَّ غضبه وغدره على أصحاب البيت البسطاء، فكان الحذر الشديد مطلوبا، وكانت الحيلة في ردعه أو النيل منه المطلب والمرام. والخوف الشديد كان على تلك الخراف الصغيرة المتبقية، وعلى تلك المخلوقات الوديعة الأخرى.


الأم تلك المرأة الصابرة والمثابرة بحنوها يملا الكون بهجة، وبعطفها ورقّتها تملا الدنيا مرحا وغبطة، أعلم أنني إن قلت كل كلماتي وأفرغت كل ما في جعبتي فلن أوفيها ولو الجزء القليل من الجزاء والشكر.
جاء ابن الغدر فكاد يحيطها بخسّته ونذالته، ليته كان يعرف مدى رقّتها ورأفتها، ليته يعرف طيبتها وحنانها. لكنه أحمق وغبي.. طبعا ابن غدر.. وله يسعى!
كم تمنيت لو كنتُ حاضرة يومها، حينما كانت تحكي لي أمي عن تلك الحادثة، وماذا أوقعَ في نفسها ذلك الموقف، وعن تلك المواجهة التي تركت أثرا في نفسيتها، موقف أو مواقف مثل تلك تعقد اللسان، وتشل الأعضاء والأبدان، وحقا هذا ما حدث لامي، لأنها ولا مرة في حياتها، وبالرغم من أنها تربت في الضيعة منذ أن كانت عامرة بالأهل بالآباء والأجداد ولم يكن يجرؤ ولا حيوان أن يقترب، كان الذئب في زمن طفولتها وشبابها لا يقف وجها لوجه مع أهل الضيعة، بل يبقى بعيدا ولا يتجرا أبدا على الاقتراب، ولا يحاول أبدا أن يعبث لأنه سوف يلقى حتفه ويكون مصيره أسوا مصير، لكن ترى ما لذي حدث هذه المرة؟ كيف استطاع الذئب ابن الغدر أن يدنو قاب قوسين من أمي؟ أين ذهب خوفه؟ ربما زمن عمر بن الخطاب ولّى فعلا، ولكن أإلى هذا الحدّ ذهبت بركة هذا الزمان، تحكي أمي كيف وجدت تلك الخراف المسكينة  مبقورة ملقية على الأرض؟ أ لهذا الحد تجرأ الذئب على الاقتراب من البيوت الآمنة البسيطة، الهادئة في وحدتها وسعادتها ولم يكتف بفريسة في الغابة أو خروف ركب رأسه وشرد عن أقرانه ليلقى حتفه ويكون مصيره تحت رحمة هذا ابن الغدر؟ّ 


ورغم كل ما حدث.. إلاّ أنه أخذ نصيبه من الضرب والتنكيل فعاد يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة ويتجرّع مرارة الذنب والاشمئزاز منه، ويقتله الجوع مرة أخرى ويعذبه عدم الحصول على غنيمة، فيرجع خالي الجنبين فارغ الوفاض دون أن يحاول التفكير أو حتى الحلم مرة ثانية في الظفر بصيد أخر لأنه لا مكان له بين السكينة والهدوء، لا وطن له بين الألفة والمحبة والفرح. ولا يمكنه أن يعيد الكرَّة فهو يعي حقيقة ما سينتظره إن تجرأ وعاد! ! ! 

No comments:

Post a Comment

الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

  تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام...