هاقد تجاوز نصف عمره يحمل كوشان الدار يدسه بين ثيابه ويتحسسه كلما همّ بتغيّيرها وقت الإستحمام، ويسأل زوجته أم أحمد منذ أن حملت صرة صغيرة رزمت بعض ما أخذوه يوم خرجوا من الدار.
_يا مرا وين صار المفتاح؟ ردي بالك ليضيع منك وبكرا لما نرجع ما نِكْدَر ندخل والدار مسكّرة.
_إي يا أبو أحمد المفتاح بصدري لا تخاف ماراح يضيع مادامني بتنفس، هيو معلق برقبتي.
_بعرف بعرف يا أم أحمد، بس حبيت أطمن وطمن قلبي بشوفتو.
_إيه يا أبو أحمد گديش صارلنا بعاد ع الدار، وكل يوم نقول نرجع بنلاقي حالنا نبعد أكتر، بالأول عطولنا خيمة وقالوا بكرا تهدا الأوضاع وترجعوا، وبعدين صارت الخيمة مخيم، وهالقيت مابنعرف وين بدنا نروح والطخ والتهجير والتقسيم صار دورو ع المخيم، والدار صارت بعيدة عنّا بينا وبينها حدود وحواجز وجدار.
_والله يامرا عم بيقولوا ناقصة نكبة وحدة ويصيرو سبعين! والأمر ماهو هين، وبيقولوا لازم نستنى لتصدر القرارات والقوانين ونشوفو إيش بيقولوا المجتمعين ألي لساتهم بياخذوا القرارات.
_أوووف يا أبو أحمد كل هالسنين وما أخذوا قرارات، والله كلما حط راسي عالوسادة بتيجي صورة أبن جارنا أبو فادي بين عيني لما كان يركض بالشارع ويتمسك بثياب الناس ويصرخ يمّى ضيعتيني وضيعتك، يمّى قسيتي علي وتركتيني وروحتي من الدار.
سبعون نكبة إلا نكبة، أيام وليالي ومئات من الأحلام والكوابيس تمر كشريط فيلم، لازال يشهق كل من يشاهده والدموع تحتبس في المقل من هول إختلاط مشاهد الحب والدمار والقهر التي أمتزجت ببعضها البعض لتنسج صورة لم يستطع أي رسّام أن يكمل تفاصيلها.
يومها كانت فلسطين جميلة رقيقة حالمة، وردية الخدود كصبية في العشرين.
بمدنها وقراها الهادئة، بميناءها وزيتونها وليمونها وتينها تداعب أحلام الشباب وترقص فرحا مع إبتسامة شيخ يغازل زوجته تحت شجرة تين أن وجنتاكِ كهته الحبّة ويطلب منها أن تصُبَّ له كوب شاي من إبريق كانت قد وضعت مؤخرته على نار حطب جمعته من بقايا أغصان يابسة ببستانهم الجميل.
وفي المساء يعودون إلى بيتهم الهادئ القابع في تلك التلة المترامية الأطراف، والتي تطل على جبل المكبّر، تمدّ يدا لمدينة تنبض من جنباتها كلمات الله ووجه.
كان الله مرسوما على وجوه الناس والفرح والمحبة تمشي جنبا إلى جنب مع الصبية وهم يلعبون عند عتبات المنازل المتواضعة تجمعهم وداعة لا متناهية وتثير شيطنتهم لعبة الطابة او بيت بيوت وغيرها من الحيل الطفولية التي أخترعوها ليتوسع وقتهم أكثر خارج الدار هربا من طلبات الأهل الكثيرة "تعا وروح"، " وجيب وأترك"، وغيرها من تفاهات الكبار التي كانت بالنسبة لعقلهم الصغير مجرد إزعاجات لا تفيد بشيء، وفجأة تتحول ألعابهم وحيلهم إلى صراخ وشد وجذب، _ماذا يحصل؟
_لا ندري! ربما هذا نوع من غضب أهلنا أو حيلة من حيلهم حتى ندخل ديارنا.
وأمتلأت السماء بدخان كثيف وأمتلأت معها القلوب بالخوف والفزع والرعشة الباردة التي خدرت الوجوه فأصابها الوجوم والكدر.
إلى أين؟
_إلى وجهة مجهولة.
_وماذا عن دارنا يمّى.
_راح نرجع يابني.
لكننا لم نرجع بعد يا مّى، وأبتعدنا أكثر، سبعون إلا واحدة والغصة تحبس صدورنا، والجراح تزداد، والموت يرقص حزنا على شهيد سقط على أعتاب الأقصى كان يحلم أن يرى وطنه مكررا ويرى الجانب الآخر من خلف الجدار.
يتبع..
#ربيعة
No comments:
Post a Comment