Tuesday, 10 November 2020

البرنوس للرجال كما النّساء، رمز الشهامة والبطولة والإستقرار

 البرنوس لباس الوقار التقليدي القديم ..حاكته الجدّات وتوراثه الأحفاد.



 
  البرنوس لباس تقليدي اشتهر قديما في أوساط الرجال، وهو عبارة عن معطف طويل او عباءة من الصوف أو وبر الجمال يضم غطاء مدببا الرأس، يكون مفتوحا من الأمام حتى منطقة الصدر اين تتم خياطته قليلا ليبدو مرتديه كأنه يملك جناحين.

وتشتهر به منطقة القبائل وتلمسان و مسعد بالجلفة، وقد اطلق ابن خلدون اسم اصحاب البرانس على البربر او الامازيغ، ويعرّف في كتابه ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر بلاد المغرب العربي بقوله: " حدود بلاد البربر تبتدئ حيث الرجال يرتدون البرنوس وتنتهي حيث الناس لا يأكلون الكسكسي".

والبرنوس أو أفرنوس عند القبائل وأعلاو عند الشاوية، لباس مقدس يوحي بعظمة ومقام من يلبسه، وعلى من يرتديه، أن يحترمه بعيدا عن أيّة رمزية دينية كانت.
المتأمل للبرنوس يجد أنه محاك بطريقة موحدة ومتساوية بدون تعقيدات، مايعكس ذلك النفوذ والعدل والحكمة السائدة في المجتمع الجزائري.

البحرينية بروين حبيب قالت: " عندما يسألك أحد: ما الحب ؟ فقط تأمل ما ترتدي من ملابس، ودقق في النسيج، لتعرف انه ليس سوى علاقات حب متواشجة ، ومتداخلة،ومتحدة متآلفة، متراكبة بعضها فوق أو جوار أو مقابل أو مع أو أمام بعض.."
هكذا يبدو المشهد للمتأمل جيدا للبرنوس، لأنه نسيج ممزوج متداخل من الحب والوقار، يلتف به الرجل الجزائري ويرتديه مانحا وجها آخر للشهامة والهيبة.


ولطالما ارتبط هذا اللباس بالمقاومة والإمامة جنبا الى جنب، وكان رمزا لهما ابّان الاستعمار الفرنسي، ثم تحول الى رمز للدولة بعد الاستقلال، وخير دليل على ذلك الأمير عبد القادر، الإمام عبد الحميد بن باديس اللذين يظهران دائما بالبرنوس، الشيخ البشير الابراهيمي والعربي التبسي، والرئيس هواري بومدين.


وقد كتب الروائي كفاح جرار رواية سماها  " اصحاب البرانس"، تحكي قصة عن أمازيغ بايعوا محمد صلى الله عليه وسلّم في بدايات الاسلام، وجرى بينهم الحديث المعروف ب " يا اهل المغرب".





تبدا صناعة البرنوس بمرحلة يجزّ فيها الصوف أو الوبر، ثم تغسل وتنقى وتجفف تحت أشعة الشمس، وتمشّط بالمشّاط، ثم تكشط بما يسمى القرداش، حتى تتفرق عناصر الصوف والوبر عن بعض، ولا تبقى كومة واحدة، ثم يأتي دور المغزل فيغزل الصوف او الوبر ليصبح خيوطا متساوية السمك ومن ثم تبدأ النسوة في نسج هذه الخيوط عبر المنسج اليدوي، وتستمر عملية النسج لشهور عدة تمتد من ثلاثة أشهر إلى تسعة أشهر، بحسب خفة يد المرأة التي تنسجه، وفي الاخير يُنقّى من الشوائب والزوائد ويخاط في منطقة الصدر أو ماتسمى ب "الصدارة " وهي عبارة عن شريط خاص يوضع في منطقة الصدر ويخاط ليضفي لمسة خاصة، ثم يغسل ويرتب البرنوس ليصبح جاهزا للبس.


ويعرف في اجتماع الوجهاء في منطقة القبائل، مايسمى ب " تاجماعت" او لجنة "حكماء القرية"، أنه من كان في هذا الاجتماع عليه أن يغطي رأسه بقلنسوة برنوسه، وبمجرد أن تسقط من على رأسه يتوقف عن الكلام، لان هذا يعني أنه قد تملكه الغضب ولا يستطيع مواصلة الحديث.


وكان الرجل الجزائري لا يستغني عن لبس برنوسه طوال السنة، ففي الشتاء هو درع واقي وجيد من قساوة البرد خصوصا في تلك الجبال التي تكسوها الثلوج، ولا يوجد أفضل من هذا الرداء الابيض القطني ليخفف من برد جبال جرجرة، فيغطي الرجل كامل جسمه بهذا الثوب الذي حاكته المرأة بكل حب وشغف لزوجها أو ابنها او اخيها، او باقي أقاربها.


أما خلال الصيف فلا مناص من هبوب رياح السيروكو أو الشهيلي الملتهبة الحارّة التي تلفح القرى والمداشر ، ما يجعل الرجل يضع برنوسه مطويا على اكتافه فيضفي ذلك على مظهره جمالية متفردة و يبدو أكثر أناقة، ويكون البرنوس  عازلا ممتازا لحرارة الجو.
ومن العادات الجميلة المتعلقة بالبرنوس ألاّ تخرج العروس الى بيت زوجها إلاّ ببرنوس والدها أو جدها أو برنوس أهل العريس،  وعند عتبة باب بيت عائلتها تدثّر به تفاؤلا بالخير والوقار والعفة والعزّ، ولا تزال هذه العادة تمارس الى غاية اليوم.


ونجد أن البرنوس حاضر في كل المناسبات كالختان والأعراس والأعياد وفي مناسبات التضامن والتكافل بين الناس كالوزيعة او " ثاوزيعث" وغيرها.


إنه شاهد من شواهد الموروث الثقافي للرجل الجزائري الأمازيغي الحرّ، في المقابل ترتدي النسوة ألبستهن التقليدية على حسب كل منطقة وتزينها بالحلي التقليدية التي تزيدها جمالا وأصالة.



ولا يمكن ان يجيء مولود حديث دون ان يحاك له برنوس يتباهى به مع اقرانه في قريته، كما ويصنع برنوس لكل طفل عند ختانه؛ ولا يهيئ  عريس جديد دون ان يحاك له برنوس جديد، يرتديه مطبقا قلنسوة البرنوس على رأسه حياء.

فيما يبدو ان البرنوس الحريري المطرز بالرموز البربرية قد أخذ مكان البرنوس القطني الأبيض التقليدي خاصة للعرائس، وهذا  لغلاء ثمن البرنوس التقليدي وندرته.


ومن المحزن ان نجد أن تقليد ارتداء البرنوس، قد تراجع كثيرا في وقتنا الحالي سواء في بلاد القبائل او منطقة الجنوب والهضاب العليا، لتبقى قلة قليلة ممن يتمسكون به يرتدونه بألوان مختلفة حسب المنطقة، فالابيض يصنع من الصوف الابيض للغنم، والبني والاسود يصنع من وبر الجمال والصوف الاسود أو البني للأغنام.


الشيوخ اكثر تمسكا بهذا التقليد، وبعض الشباب ممن يحاولون الحفاظ على هذا الموروث، خاصة وان البرنوس افضل لباس يقي من قساوة الثلوج، أين تنخفض  درجة الحرارة إلى أقل من الصفر بكثير.


في عام الفين واربعة عشر، انطلق المهرجان الأول للبرنوس بالجزائر، وكانت قرية حورة ببلدية بوزقن بولاية تيزي وزو، بتنظيم من الجمعية الثقافية " يعقوبي فرحات"، بالتعاون مع مديرية الثقافة للولاية، تتواصل هذه الاحتفالية لغاية اليوم، فقد شهد شهر أوت المنصرم الاحتفال بتظاهرة البرنوس للعام الخامس على التوالي، حيث  تعتبر هذه التظاهرة فرصة جميلة للتعريف بهذا الموروث الحرفي الثقافي، الذي يعبّر بكل صدق عن أصالة المجتمع الجزائري الأمازيغي، ومدى تنوعها تراثا وحرفة.


https://pin.it/2GCCHBv

وعن الموضوع تحدثنا مع الصحفّي والإعلاميّ صلاح الدين الأخضري، وصرّح لنا قائلا: "يهمني شخصيا أن يصنف البرنس لدى اليونسكو كميزة لأهل المغرب، وأردف قائلا:" سأعمل على ذلك، وسأسعى جاهدا من جهتي حتى يتبوأ هذا الموروث اللامادي مكانة بين باقي الموروثات. الثقافية في العالم ككل".


وعبّر لنا بعض من التقيناهم وسألناهم عن البرنوس، أنه موروث يساوي ثروة، كما تقول الحاجّة مريم، فيما أخبرتنا الخالة فاطمة أنه رمز "الستر"، أمّا عمي محمد فقد قال بأنٌه نعمة للابسه، وفخر لمن يحتفظ به ويقول أنه لطالما تهندم به بمناسبة أو بغيرها.


ومن الجيل الجديد تقول فلّة أنّ رؤيتها لوالدها وهو يتوشح بجناحي برنوسه تمنحها شعورا بالحماية والقوة التي يتركها منظر إرتداء والدها للبرنوس.


 


No comments:

Post a Comment

الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

  تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام...