Thursday, 5 August 2021

الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

 



تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام ويساهم بشكل فعال في إضافة عناصر متعددة.

ولكل بلد أكلات شعبية تقليدية تتوارثها الاجيال عبر السنين، إبتدعها الأجداد ليسير على دربهم الأحفاد.

في الجزائر يزخر المطبخ الجزائري بقائمة لا حصر لها من المأكولات التقليدية على غرار الكسكسي والبركوكس والرشتة.

هذه الأخيرة تعدّ موروثا تقليديا متجدرا في القدم، تفضله العائلات العاصمية ومناطق الوسط الجزائري، وتعتبر أهم طبق في موسم المولد النبوي الشريف على وجه الخصوص.

يتم تحضير الرشتة بالطهي على البخار حتى تصبح ناضجة، على عكس الكنافة التي تحضر بوضعها على صفيحة ساخنة، وبالرغم من أنّهما يتشابهان في الشكل الخارجي، إلا أن لكل واحدة مكوناتها ومذاقها، وبالتأكيد طريقة تحضيرها.
والرشتة عبارة عن خيوط رفيعة وطويلة من العجين المصنوع من الدقيق والملح، بحيث يراوح سمكها بين الشعيرية العربية والسباغيتي الإيطالية، ونجد الرشتة التي تُبَاع في السوق جاهزة، بالمقابل هناك عائلات لا تزال تصنَعها في بيوتها بطرق تقليدية،  بآلة مخصصة لذلك، ثم تطهى في الكسكاس وهو إناء به ثقوب يوضع فوق القدر، ويبدأ تبخيرها بعد وضع كمية قليلة من الزيت والتوابل عليها، بالموازاة يحضر المرق الذي يكون مصاحبا لخيوط عجين الرشتة عند التقديم، ويوضع فيه دجاج أو لحم وتوابل وحمص وبعض من اللفت والكوسى أو القريع، وتكون إما حمراء فتضاف الطماطم إليها، أو بيضاء، وهي المتداولة بكثرة، وبعد أن تجهز الأكلة وتوضع في الطبق تضاف إليها رشة من القرفة التي تضفي سحرا خاصا ونكهة متفردة تميز هذا الطبق وتجد نفسك مأسورا  برائحتها الشهية.

https://pin.it/2ELso3c

يعود أصل تسمية الرشتة  إلى أصول فارسية، وتحديداً إلى كلمة  تارشتا، ورشت، وتعني الخيط، أو خيوط العجين، ولا تزال إلى يومنا هذا تُدعى تارشتا في مدينة تلمسان، كما يتمّ تناولها في بعض المدن بالجنوب التونسي، وليبيا أيضا، وفي لبنان يضيفون إليها العدس ويقدمونها على شكل شوربة.

وعن زمن تواجدها بشكل دقيق فإن المصادر لم تتوصل إلى وقت أو مكان محددين لذلك، غير أنه ورد اسم طبق الرشتة في كتاب رحلة ابن خلدون غربًا وشرقًا،  حين توجه ابن خلدون من بلاد الشام في العام 803 هجرية إلى القائد المغولي المسلم تيمورلنك، كسفير دبلوماسي لطلب السلام، حين إستعان به أهل دمشق للمفاوضة معه، فدوّن رحلته هذه في كتابه "تاريخ ابن خلدون"، غير أن هذا الأمر لا يستند إلى تأكيد أو نفي.
ونجد في الصفحة 4804 من كتاب ابن خلدون هذا، وفي طبعته الصادرة عن دار الفكر في بيروت الفقرة التالية: "ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه "الرشتة" ويُحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأُحضِرت الأواني منه و أشار بعرضها عليّ، فمثلتُ قائماً وتناولتها وشربت واستطبت، وقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا".

وفي غياب مراجع تاريخية حاسمة في الموضوع، فإنه من المرجح أنّ ابن خلدون ذكر طبق "الرشتة" الذي عرفه في الجزائر، وشبهه بالطبق الذي قدم له أثناء لقائه بتيمورلنك.




ويبدو ظاهرا للجميع أن هذا الطبق قد قطع أشواطا من  تاريخ وجغرافيا الشعوب حتى وصل إلى المغرب العربي، وبالتحديد إلى الجزائر! ولعلّ لابن خلدون يداً في ذلك، فآثر أن يترك موطنه الأصلي في بلاد فارس ليستقر بين أحضان بلاد الأمازيغ، وفي مطابخ العائلات الجزائرية التي تعشق هذا الطبق وتتهافت في كل مناسبة لاقتناء مايتطلب من مكونات لتحضيره، ويجتمع عليه كل الأهل و الأحبة والجيران، وتسارع في تبادل الأطباق في الحي والجامع  تجمعهم موائد المحبة والتآزر كما تجتمع خيوط عجين الرشتة!

 لتصبح جزءً من العادات والتقاليد العربية التي تتشبع بثرائها و غناها وتنوعها، ما يجعل المهتمين باكتشاف العادات والتقاليد لمختلف الشعوب، يندهشون من عمق هويتها الثقافية والتاريخية والحضارية.

وإن ثبت أن طبق الرشتة الذي تحدث عنه ابن خلدون هو ذاته طبق الرشتة المشهور عندنا، فهذا يجعلنا نقول ان لابن خلدون يدا في نقل هذا الطبق الينا.
وتبقى هذه الرقائق المستخلصة من المعجنات والتي يضاف إليها المرق واللحم والخضروات بشكل أنيق وشهي، يزين موائد العائلات الجزائرية في معظم مناطق الوطن خصوصا في الآونة الأخيرة، فقد شهدت العشر سنوات المتتاليه عودة العائلات إلى تقديم طبق الرشتة بشكل مثير للإهتمام، ما يعني أن الأجيال هذه لا يمكنها نسيان أصالتها وتقاليدها في خضم التقدم التكنولوجي وموضة الأكل السريع. 


No comments:

Post a Comment

الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

  تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام...