Thursday, 5 August 2021

الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

 



تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام ويساهم بشكل فعال في إضافة عناصر متعددة.

ولكل بلد أكلات شعبية تقليدية تتوارثها الاجيال عبر السنين، إبتدعها الأجداد ليسير على دربهم الأحفاد.

في الجزائر يزخر المطبخ الجزائري بقائمة لا حصر لها من المأكولات التقليدية على غرار الكسكسي والبركوكس والرشتة.

هذه الأخيرة تعدّ موروثا تقليديا متجدرا في القدم، تفضله العائلات العاصمية ومناطق الوسط الجزائري، وتعتبر أهم طبق في موسم المولد النبوي الشريف على وجه الخصوص.

يتم تحضير الرشتة بالطهي على البخار حتى تصبح ناضجة، على عكس الكنافة التي تحضر بوضعها على صفيحة ساخنة، وبالرغم من أنّهما يتشابهان في الشكل الخارجي، إلا أن لكل واحدة مكوناتها ومذاقها، وبالتأكيد طريقة تحضيرها.
والرشتة عبارة عن خيوط رفيعة وطويلة من العجين المصنوع من الدقيق والملح، بحيث يراوح سمكها بين الشعيرية العربية والسباغيتي الإيطالية، ونجد الرشتة التي تُبَاع في السوق جاهزة، بالمقابل هناك عائلات لا تزال تصنَعها في بيوتها بطرق تقليدية،  بآلة مخصصة لذلك، ثم تطهى في الكسكاس وهو إناء به ثقوب يوضع فوق القدر، ويبدأ تبخيرها بعد وضع كمية قليلة من الزيت والتوابل عليها، بالموازاة يحضر المرق الذي يكون مصاحبا لخيوط عجين الرشتة عند التقديم، ويوضع فيه دجاج أو لحم وتوابل وحمص وبعض من اللفت والكوسى أو القريع، وتكون إما حمراء فتضاف الطماطم إليها، أو بيضاء، وهي المتداولة بكثرة، وبعد أن تجهز الأكلة وتوضع في الطبق تضاف إليها رشة من القرفة التي تضفي سحرا خاصا ونكهة متفردة تميز هذا الطبق وتجد نفسك مأسورا  برائحتها الشهية.

https://pin.it/2ELso3c

يعود أصل تسمية الرشتة  إلى أصول فارسية، وتحديداً إلى كلمة  تارشتا، ورشت، وتعني الخيط، أو خيوط العجين، ولا تزال إلى يومنا هذا تُدعى تارشتا في مدينة تلمسان، كما يتمّ تناولها في بعض المدن بالجنوب التونسي، وليبيا أيضا، وفي لبنان يضيفون إليها العدس ويقدمونها على شكل شوربة.

وعن زمن تواجدها بشكل دقيق فإن المصادر لم تتوصل إلى وقت أو مكان محددين لذلك، غير أنه ورد اسم طبق الرشتة في كتاب رحلة ابن خلدون غربًا وشرقًا،  حين توجه ابن خلدون من بلاد الشام في العام 803 هجرية إلى القائد المغولي المسلم تيمورلنك، كسفير دبلوماسي لطلب السلام، حين إستعان به أهل دمشق للمفاوضة معه، فدوّن رحلته هذه في كتابه "تاريخ ابن خلدون"، غير أن هذا الأمر لا يستند إلى تأكيد أو نفي.
ونجد في الصفحة 4804 من كتاب ابن خلدون هذا، وفي طبعته الصادرة عن دار الفكر في بيروت الفقرة التالية: "ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه "الرشتة" ويُحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأُحضِرت الأواني منه و أشار بعرضها عليّ، فمثلتُ قائماً وتناولتها وشربت واستطبت، وقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا".

وفي غياب مراجع تاريخية حاسمة في الموضوع، فإنه من المرجح أنّ ابن خلدون ذكر طبق "الرشتة" الذي عرفه في الجزائر، وشبهه بالطبق الذي قدم له أثناء لقائه بتيمورلنك.




ويبدو ظاهرا للجميع أن هذا الطبق قد قطع أشواطا من  تاريخ وجغرافيا الشعوب حتى وصل إلى المغرب العربي، وبالتحديد إلى الجزائر! ولعلّ لابن خلدون يداً في ذلك، فآثر أن يترك موطنه الأصلي في بلاد فارس ليستقر بين أحضان بلاد الأمازيغ، وفي مطابخ العائلات الجزائرية التي تعشق هذا الطبق وتتهافت في كل مناسبة لاقتناء مايتطلب من مكونات لتحضيره، ويجتمع عليه كل الأهل و الأحبة والجيران، وتسارع في تبادل الأطباق في الحي والجامع  تجمعهم موائد المحبة والتآزر كما تجتمع خيوط عجين الرشتة!

 لتصبح جزءً من العادات والتقاليد العربية التي تتشبع بثرائها و غناها وتنوعها، ما يجعل المهتمين باكتشاف العادات والتقاليد لمختلف الشعوب، يندهشون من عمق هويتها الثقافية والتاريخية والحضارية.

وإن ثبت أن طبق الرشتة الذي تحدث عنه ابن خلدون هو ذاته طبق الرشتة المشهور عندنا، فهذا يجعلنا نقول ان لابن خلدون يدا في نقل هذا الطبق الينا.
وتبقى هذه الرقائق المستخلصة من المعجنات والتي يضاف إليها المرق واللحم والخضروات بشكل أنيق وشهي، يزين موائد العائلات الجزائرية في معظم مناطق الوطن خصوصا في الآونة الأخيرة، فقد شهدت العشر سنوات المتتاليه عودة العائلات إلى تقديم طبق الرشتة بشكل مثير للإهتمام، ما يعني أن الأجيال هذه لا يمكنها نسيان أصالتها وتقاليدها في خضم التقدم التكنولوجي وموضة الأكل السريع. 


"دلس" عروس البحر، مدينة الدهشة، وتاريخ يكابد النسيان



 من العاصمة الجزائر، نربط حقائبنا لنسافر شرقا على بعد بضع كيلومترات، حتى نشهد لحظة إلتقاء الخيال بالحقيقة، وعلى مشارف مدينة سميّت بعروس البحر نشاهد سحر الحقيقة، ودهشة الخيال.

مع ساعات الصباح الأولى، كانت وجهتنا ركنا عجيبا من ربوع الجزائر، البلد القارة، لنصل إلى منطقة تتنفس حضارة وتاريخا! نمشي في شوارعها بخطى وئيدة، نشم عبق الأصالة المزهو بحقبات تاريخية للماريّن من هنا، إنها تادلس، أو دلس، ثاذلسث، شجيرة الديس التي استغلها الإنسان منذ القدم في العمران، يغذي بها مواشيه، ويصنع الحبال، لتبقى إلى غاية اليوم تستغلّ في صناعة المظلاّت التي تتزوّد بها شواطئ البحرلتوفير الراحة للمصطفين.

https://pin.it/3T2eCes



من هي دلس عروس البحر


البلدة القرطاجية التي بنيت لتكون لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط منذ القرن الثاني قبل الميلاد. قرّرنا أن نغوص في مدينة قوامها خمسة وعشرون قرنا من التاريخ، نكتشف مجاهل شجرة الديس، أحد أقدم المرافئ التي أقامها الفينيقيون.


رأس الحوت، أَكثر الموانئ البحرية أمناً على طول الساحل الجزائري، وصفها الباحث الجزائري فوزي سعد الله قائلا: “هذه الأندلس المنسية، هذه الجنة! في هذه البلدة الصغيرة الواقعة على مشارف منطقة القبائل، لا يزال بإمكاننا مقابلة الحكماء القدامى المتأصلين بعمق في المنطقة، يتجولون في القصص القديمة بين حاراتها وأزقّتها.


بين تلك الحارات القديمة نمشي، ولا شعور هنا بالتعب، حيث يزيّن ذلك الركن القديم القابع منذ قرون النسيج العمراني للمدينة، إنٌها قصبة دلس، أو حومة الميزاب، منطقة مرتفعة شيّدها العثمانيون في القرن السادس عشر الميلادي، وحصّنوها بسور ذو أبواب متعددة.


القصبة تميزها البيوت المزينة بالشرفات المُطِلّة على البحر الأبيض المتوسط، والأروقة الضيقة والبساتين الدائمة الإزهار والاخضرار، والتي كانت تحتوي على أشجار ونباتات متنوعة ونادرة منها شجرة القهوة التي لا يكاد يوجد لها أثر بالجزائر كلها في وقتنا الحالي! ونجد المسجد، ومقام سيدي سوسان، وضريح الولي الصالح سيدي الحرفي. وأشتهر ذلك العصر بإزدهار الثقافة والفلاحة وتحسن المنتوج من صيد الأسماك، وفي الطرف الثاني من المدينة تقابلك تلك البنايات الأوروبية الجديدة التي بنيت أثناء الحقبة الاستعمارية الفرنسية والتي تمتد على طول الساحل، وهي ما تعرف حاليا بالمدينة الجديدة.


دلْس ذكرها الرحّالة والمؤرخون، فكتب عنها ابن خلدون، وابن حوقل والبكري والإدريسي، والشاعر يوسف السنوسي، فحين أسّس القرطاجيون مدينة دلس في القرن السادس قبل الميلاد، من المؤكد حينها أنّهم كانوا يملكون نظرة استشرافية للمستقبل، وإلاّ لما تركوا لنا كل هذه الكميّة من الجمال وسحر الأمكنة التي تسحر الألباب قبل العقول!


يؤكد المؤرخ الجزائري محمد لمين بلغيث من جانبه وصول موجة من المنفيين المسلمين من فالنسيا عبر تونس إلى “تادليس” أي “دلس حاليا”، ويخبرنا مصطفى حاج قويدر محافظ التراث بولاية بومرداس أن دلس لجأ إليها نحو ثلاثين ألف أندلسي بعد سقوط غرناطة، فأخذت عنهم عمارة البيوت المزدانة بالرياض، وورث سكانها عنهم غرس الزهور، ونشروا اللسان العربي بين السكان الأمازيغ، وتتميّز المدينة بأراضيها الخصبة التي يرويها وادي سيباو في جزئها الغربي.


بروسو كوروس…أقدم مدينة بحرية

إنها حكاية الشعراء، وعطر أخّاذ، تنهض هازمة لكل رياح النسيان التي تلوح في سماء تاريخها الممتدّ عبر العصور، وعشق يجري في عروق دماء كل من يعشق آيات اللّه في تصوير الجمال والطبيعة العذراء.


خمسون كليومتر مربع هي مساحة دلس بمرتفعات ولاية بومرداس الساحلية، يسكنها أربعون ألف نسمة، تقع على بعد ثمانين كيلومتر شرق الولاية، تتوسط العاصمة الجزائر وولاية تيزي وزو، ورغم أن المدينة قد مرّت عليها حقبات تاريخية متعدّدة إلاّ أنها لا تزال تحافظ على طابع عمراني متفرد، يجعل منها تستحق اسم الأندلس الصغيرة بلا منازع.



فقد تحولت المدينة في منتصف القرن الأول الميلادي إلى مستعمرة رومانية، وجاء اليونانيون ليضيفوا للمدينة إرثا زاخرا في عديد المجالات، واتسم ذلك العهد بالرخاء،خاصة خلال العام خمسين ميلادي الذي حكم فيه الإمبراطور كلوديوس، وسميت المدينة آنذاك بروسو كوروس، وتعتبر أقدم مدينة بحرية، ولا تزال الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤرخ للحقبة الرومانية قائمة إلى اليوم كالأسوار القديمة، ومنابع سيدي سوسان.


كما تعززت المدينة ببعض الآثار التي عثر عليها مؤخرا من الحلي والأواني الفخارية والفسيفساء، التي ضعت في متحف الجزائر حفاظا على استمراريتها، تقدم موروثا حضاريا للأجيال القادمة، ومن أهم مشاهير الأعلام الذين ارتبط اسمهم بمدينة دلس نجد البويصري صاحب البردة.


شهدت المدينة تغييرا كبيرا إن لم نقل شبه كامل في البناء والنمط المعماري بسبب العوامل الطبيعية كالزلازل أو بسبب الحروب والغزوات وما لحقها من تدمير بشري لمعالمها، غير أنّ قدوم العرب إليها أنقذ المدينة وأعاد لها رونقها، فقد أعادوا بناءها مرة أخرى بما أمكنهم من وسائل ليحافظوا على وجه المدينة التاريخيّ العتيق.


ثم بعد ذلك جاء الحماديون وسيطرو على المدينة، واستقر فيها معز الدولة بن صمادح، بعد سيطرة المرابطين على الأندلس في العام ألف وثمانية وثمانين 1088 م، وتعاقبت القبائل العربية على المدينة دلس، فكان لكل قبيلة بصمتها في المكان، ومرّ من هنا أيضا الأخوين عرّوج وخير الدين بربروس، الذيّن اتخذا من المدينة مقرا لهما لتكون مركزا يسيطرون من خلاله على مدن ومناطق أخرى كانت في قبضة الإسبان آنذاك.


وبعد سبع سنوات من الحملة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر سقطت مدينة دلس في يد الفرنسيين أي في العام ألف وثمانمائة وسبعة وثلاثين 1837 م، أصبحت لؤلؤة البحر المتوسط أسيرة الاحتلال مثلها مثل باقي المدن الإستراتيجية في الجزائر على غرار المحروسة بالله البهجة مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، العاصمة الجزائر حاليا.


يذكر أنّ الماريشال بيجو قاد هذه الحملة بنفسه لما تملكه المدينة من مكانة وموقع جيواستراتيجي، وتجدر الإشارة أن الفرنسيين نهبوا الكثير من الآثار من مدينة دلس وأخذوها إلى فرنسا، وهي موجودة حاليا بمتحف اللوفر بباريس!


زارها الأمير عبد القادر وأقام بها ثمانية ليال سنة 1838

وفي العام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين 1844 م سيطرت فرنسا على المدينة بالكامل، قاومت المدينة بكل نسيجها العمراني غدر العدو الفرنسي وتصدت لكل الهجمات التي أرادت محو تاريخها وكابدت كل الصعاب برجالها ومقاوميها فكانت من أوائل المدن الجزائرية التي نفذ فيها جيش التحرير الوطني عمليات بطولية ضد المستعمر الفرنسي الغاشم خلال ثورة نوفمبر 1954 المباركة.


ثم نالت الجزائر الاستقلال ليطردَ الجزائريون الاستعمار الفرنسي من كامل التراب الجزائري، واحتفلت مدينة دلس مثلها مثل باقي المدن الجزائرية بالنصر والحرية، كل مكان في مدينة دلس لم يستطع أن يخفي الوجه الشاحب الذي مرّ عليها خلال سنوات الجمر، فشواهد كثيرة لازالت راسخة في أذهان التادلسيّين، تظهر مدى قساوة تلك الفترة التي لم تخلّف سوى الحزن والدمار لعقد من الزمن، لم تستطع الأيام محوه إلى اليوم!

رحلة عبر المدينة

نغلق دفتر الحزن لنستمر في سرد حكايا المدينة الساحرة، نمشي ونحن نتجول بأنظارنا عبر مساحات ممتدّة على مرمى البصر، ونقلّب صفحات الطبيعة لنرى تلك اللوحات التي أفردها الخالق لتميّز مدينة تشبه سحر الأندلس هناك خلف الأزرق في الضفة المقابلة.


ومدينة دلس وجهةً سياحيّة بامتياز، يقصدها آلاف الزُوّار المحلّيين على مدار السنة، ويتوافد السياح الأجانب من دول عدّة لتاريخية المكان، يتعرفون على سحر طبيعتها، ويشاهدون آثار تلك الحضارات القديمة التي تعاقبت عليها عبر الزمن، والتي تستدعي الدراسة والبحث والاهتمام، فضلاً عن كونِها تتربّع على مساحة على طول الساحل.


ولا يمكن للباحثين عن سحر الطبيعة العذراء، والمناظر الخلابة الموجودة فيها أن يفوّت زيارتها، وألاّ تكون ضمن أهم المدن التي تدرج ضمن قائمة الأماكن التي يجب الوقوف عندها عند زيارة الجزائر.


من أهم معالمِ المدينة نجد زاوية سيدي المجني، سيدي الحرفي، القصبة العتيقة، كما فصّلنا آنفًا المسجد الكبير الذي رُمِّم مؤخرا، ومنارة بن قوت أو برج فنار حسب ما تشتهر به، والتي تقع بميناء دلس الشهير.


https://pin.it/1H5tvwT

وتبقى مدينة دلس إرثا حضاريا وقامة تاريخية، تستدعي اهتماما أكبر من طرف كل الجهات مسئولين وشعبا وزائرين، وينبغي تعزيز الحس الثقافي والسياحي، حتى نضمن لنا ولمستقبل الأجيال القادمة مكانة في قارب الموروث الحضاري المهدد بالزوال في حال ما إذا لم نهتم بما نملك من ثروة سياحية.


Monday, 26 July 2021

البوقالة موشحات وتعابير موزونة.. تجتمع عليها النساء الجزائريات، تعقدن النيّة وتنتظرن الفأل والبشارة



  بسم الله بديت وعلى النبي صليت،وعلى الصحابة رضيت، ومع حبابي هاد البوقالة نويت، يا ربي أعطينا الفال، ولاقينا بولاد الحلال.
هكذا تبدأ النسوة سهراتها الرمضانية وهي تجتمع على سطح البيوت المتراصة، في منزل إحداهن ، أو في وسط الدار وعلى ضوء القمر، في دويرات القصبة العتيقة بالعاصمة الجزائر مرورا بالمدن القريبة كشرشال، والقليعة وصولا إلى تلمسان بالساحل الغربي لتنتشر بعدها في وقتنا الحالي إلى أغلب المناطقالجزائرية، وحتى إلى البلدان المجاورة ليبيا تونس والمغرب. 


بعد أن يخرج الرجال والأطفال إلى الجوامع لصلاة التراويح، أو إلى المقاهي والحومات "الحارات" ليتسلو بألعاب الشطرنج والنرد وشرب الشاي أو القهوة،  تتسامر النسوة إلى ساعات الفجر الفجر الأولى حين تهدأ المدينة.

البوقالة التسلية الوحيدة التي كانت تعقد البنات العازبات آمالهن ونياتهن مع أطراف أثوابهن، علّها تصعد إلى السماء مع دخان البخور والجاوي الذي يُحرق على الكانون أو النافخ، وتتحقق مع خيوط الفجر الأولى، لتجد حديث النسوة في اليوم الموالي حول فتاة أفرحها فأل البوقالة ليلة البارحة، وأخرى أحزنتها وكدّرت أبياتها صفوها!


حقيقة التسمية وأصلها

  لا يختلف اثنان على أنّ البوقالة هي موروث شفاهي شعبي جزائري ضارب في القدم، تمارسه النساء الجزائريات في المناسبات و الأعراس والسهرات الرماضانية، رغم أن المؤرخين قد تباينت تحليلاتهم وتفسيراتهم في أصل البوقالة وتاريخها.

فبين من يرجع أصولها إلى الأتراك مع مجيء العثمانيين إلى الجزائر، وبين من يقول أن البوقالة تشبه طقوس سحر  لجماعات أورثوذوكسية، ومن يقول أن أصلها فينيقي، وصولا إلى عهد الفينيقيين بمدينة تيبازة و شرشال على وجه التحديد.

إلا أنه يتفق الجميع أن البوقالة في المخيال الجمعي لم تُختر إلاّ لتكون لسانا يُترجم به ماتجود به الذاكرة الجماعية من حفظ لتراث الموشّحات الأندلسية والشعر الشعبي.

وتشير بعض الروايات إلى أن اللوحة المشهورة للتشكيلي الفرنسي أوجين دولاكروا(1798 ـ 1863) التي أبدع فيها في العام 1834 بعنوان « نساء الجزائر في مخدعهن» وأعاد صياغتها بتفاصيل أكثر دقه عام 1849 استنبطها من حضوره جلسة «بوقالة» في إحدى ليالي رمضان بحي القصبة العتيق في العاصمة الجزائري، ويبقى هذا بطبيعة الحال بحاجة على تأكيد وتدقيق.


أعقد وأنوي..هكذا تبدأ طقوس اللعب

  عند البدء في طقوس البوقالة، قد يظهر للبعض أنها مستوحات من طقوس قديمة كلوح الروح او ما يعرف بلوح الويجا، أو حتى بعض التشبيه بالعرافة عن طريق الماء او ما يسمى "بالهيدرومنسيا"، ويرجع الكارهون البوقالة رأيهم إلى بعض البوقالات التي تحتوي عبارات من أمثلة استحضار الجن كما نجد في هذه البوقالة: "هبطت لقاع البحر،فرّشت زربية، خرجت لي جنية، قالت لي واش بيك يا بنية؟ قلت لها راحوا حبابي وخلاوني وحدانية"، أو استهجانهم لبعض الكلمات التي ترددها العارفة في بداية اللعبة مثل: "بخرتك بالجاوي جيبلنا الخبر من القهاوي، بخرتلك بالحنة جيبلنا الخبر من مزغنة، بخرتلك بالزيت جيبلنا الخبر من كل بيت”وينعتها البعض ببعدها عن العرف وتعاليم الدين ، "يما يما ديريلي تويقة في وسط الحديقة باش نشوف زهري كي تجيبو ذيك الوريقة"، أو فيما يتعلق بالعقد وهو عقد أطراف الثياب، استنادا للآية الكريمة: ومن شرّ النفّاثات في العقد"، والتطير بالفأل إن استعصى فتح العقدة فيما بعد.

  غير أنّ هذا بعيد كل البعد عن ممارسة لعبة البوقالة كما يؤكد ذلك أكثر باحث في تاريخ البوقالة "قدور المحمصاجي" الذي كتب كتابا باللغة الفرنسية  سنة 1989 سماه :" لعبة البوقالة.. مساهمة في معرفة أحسن لهذه التسلية التربوية والشعبي"، كما أنّه قدّم العديد من الحصص الإذاعية والتلفزيونية، تناول فيها موضوع البوقالة، كموروث سوسيولوجي يحاكي عادات النساء في القديم، حتى وإن تضمنت الكلمات التي ذكرناها سابقا، فهي إنما تعاز على جهل العوام ليس إلاّ.

وتؤكده أيضا التعابير التي نبدأ بها عند اللعب، فتبدا بالبسملة والصلاة على النبي، والدعوة إلى الدعاء والتضرع لله عز وجل ورجائه لتحقيق الأمنيات مثل: 

"لو كان السعود تنغرس بالعود نغرس ميات عود وعود في أرضي، لكن السعود بيدك يا الله يا معبود، ياسقام السعود سقملي سعدي".

"امّنت بالله، والمنام رؤية من عند الله، حمامة بيضة جات ترفرف عليّ، معاها حصان توقّف بين يديّ".

"الناس تنده بالرجال والوالي، وانا ننده بربي العالي".

عند البدء تتزيّن النسوة بملابسهن التقليدية، وبأبهى ما تملكن من حليّ فضة أوذهب، يتعطرن، ويحضرن مائدة جميلة عليها مالذّ وطاب من حلويات تقليدية، البقلاوة، المقروط، المحنّشة، المعذبات والقريوش، مرفوقة بابريق الشاي الأخضر بالنعناع والقرنفل، وعلى المائدة النحاسية، تحضر النسوة البوقال "وهي كلمة أمازيغية أصل تسمية البوقالة"، وهو عبارة عن إناء فخاري يوضع داخله ماء، وتحته النافخ أو الكانون ويكون فيه فحم ليبخر البوقال على أنواع العود والجاوي والعنبر، بالإضافة إلى ماء الزَهْروالحناء والشموع، "وكلمة زَهْر باللهجة الجزائرية تعني الحظ".

تجتمع النسوة ويجلسن حول المائدة، وقد ترافقهن عازفة آلة موسيقية أحيانا، قيثارة،عود أو كمان، على ضوء القمر واشعال الشموع، في عتمة وسكون، يجعل المجتمِعات يخلون بذواتهن، ويفكرن براحتهن فيما يردنا عقد الفأل عليه.

ويفرغ داخل البوقال ماء، وتضع النساء خواتمهن أو حليّهن داخل البوقال ويرش بماء الزهر ويغطى بمنديل

تبدأ العارْفة وهي بالعادة امرأة كبيرة في السن تحفظ الموشّحات والأبيات الشعرية والتعابير عن ظهر الغيب، تطلب من الحاضرات أن تعقدن أطراف أثوابهن أو خمرهن، وينوين نيّة ما وينتظرن، ثم تلقي العارْفة على مسامعهن البوقالة، بعد ذكر الله والصلاة على رسول الله، ويطلب من إحداهن أو فتاة صغيرة أن تسحب خاتما واحدا من داخل البوقال، ويكون فأل البوقالة على صاحبة الخاتم، وقد تصرح المعنية بما نوته، أو تكتم سرّ نيتها، وهكذا إلى أن ينتهين جميعهن من العقد والنية،  واخراج الخواتم كلّها، ثم يسكب ذلك الماء في وقت متأخر من الليل على السطح أو الشرفة، وبالعادة يسكب على النباتات التي تزين أسطح وشرفات البيوت العتيقة، لإنتظار تحقيق الفأل على زعمهن.


الحديث عن الأحلام والأمنيات بالشعر والقافية

  وتبقى البوقالة التقليد النسوي الوحيد البعيد عن السلطة الذكورية تمارسه النسوة ويتسامرن بكلمات عن الحب العفيف والوجد والإنتظار ودعوة الخالق في الإجتماع بالأحباب والزواج، لقاء الأهل والأقارب، والإبتعاد عن الأعداء التي تشعل النسوة شموعا من أجلها، علّا تكون قريت من نور أو شعلة من ضياء يهديهم لطريق العودة إلى بيوتهم وحضن زوجاتهم وامهاتهم ولقاء محبوباتهم: “يا قايدين الشموع هاكو شمعة قيدوها بالاك الغايب يعود والفرحة نعاودوها”. وتخاطب البوقالة المشاعر والوجدان، وتؤرخ ببساطتها للتاريخ العتيق، العامر بالفخر والكلام الموزون الجميل.

كما نجد أن البوقالة لم تخرج يوما عن إطارها العام المتعلق بحبكة الزمان والمكان.


العودة إلى الأصل.. بوقالة وفال زين

  قد تتجاوز عدد البوقالات الشعبية المنتشرة حدود 500 بوقالة، غير أن المعروف أنها انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت في كافة أرجاء الجزائر شرقها وغربها، حتى وإن لم تقم بكافة تلك الطقوس، لكن الفتيات خاصة العازبات منهن يدأبن خلال رمضان بممارستها والتسلية مع العائلة، الآن نجد الكثيرات ممن يتحدثن أو ينشرن البوقالات والفأل الحسن على مواقع التواصل الاجتماعي، باختلاف الطرق، مكتوبة مسموعة أو مرئية، كما أنّا أصبحت من العادات التي لابد منها في الأعراس توزعها العروس وهي تحمل سلة فيها قصاصات ورقية مكتوبة عليها البوقالات مرفوقة ببعض الحلوة والمكسرات والورد، وهذا بعد الإنتهاء من "التصديرة"، وهي ارتداء العروس جميع ألبستها التقليدية والتباهي بها أما الحاضور.

في النهاية لا يسعنا إلاّ القول أن البوقالة تبقى جزءا هوما من تراث شفوي جزائري مليء بالزجل الجميل، والتعبير النابع من الإحساس بدرر الأبيات الشعرية التي هي في مجملها تجارب الحياة، أمثال وحكم وتعابير تربىّ عليها اللسان الجزائري الأصيل.

في الختام بكل حب نهديكم هذه البوقالة بعد بسم الله والصلاة على رسول الله: 

"رشّيت عتبة الباب بالزهر و الطّيب ، وسقيت كل الأحباب بالعسل و الزبيب ، و كى نسيت جاني جواب كنت نستناه من عند البعيد".





Monday, 29 March 2021

قصر خداوج العمياء..بين أسطورة الحكاية.. وسحر المكان



بيت من بيوت القصبة العتيقة بأعالي العاصمة الجزائر يفتح أبوابه أمام الزوّار قبل بدء عملية الترميم.

تحول القصر اليوم إلى متحف وطني يفتح أبوابه للزوار طيلة أيام الأسبوع ماعدا الجمعة. بدأت أشغال الترميم فيه في الجزء الأهم من القصر خلال الأشهرالأولى من عام2017، وهو الجناح الواسع أو بيت الضيافة؛ "الصالون" بالمسمى الحالي.

تُظهر الصور جوانب وضع أساسيات الترميم التي بدأت في العام 2008 م.
و للقصر حكاية هي أقرب منها إلى الأسطورة والخيال، لكن تناقلتها الألسن ولم يستطع أحد من المهتمين والمختصين نفيها أو إثبات صحتها، لكنها تبقى قصة جميلة تحكي حياة الناس الجزائريين أيام القرن السادس عشر ميلادي، حينما كانت الدولة العثمانية في أوج عطاءاتها، وتقول الحكاية :
عاشت الأميرة خداوج في قصر فخم أنيق بالقصبة السفلى، وبالضبط بحي يدعى "سوق الجمعة" مع والدتها ووالدها الحاكم حسن خزناجي، إلى جانب أختها الكبرى فاطمة.
كانت حياة البنت الصغرى خداوج، مختلفة عن بنات سنها في عصرها، وحتى عن أختها الكبرى. فقد لقيت من الدلال ما يكفيها، ومن المرح ما يرضيها، خصوصا من طرف الحاكم والدها، الذي منحها اهتماما مبالغا فيه. هذا ما جعلها تميل له باعتباره قائدا للأسطول البحري الجزائري، وأحد أعضاء الديوان "الخزينة" لدى الداي محمد بن عثمان، وذلك سنة 1792م.




  كان حسن الخزناجي كثير السفر، وفي إحدى سفرياته أحضر لابنته مرآة ثمينة مصنوعة من زجاج يلمع، يشبه الألماس مع زخرفة منقوشة تحيط بحواشيها، ومع مرور السنين ازدادت خداوج حسنا، ومن شدة ولعها بذاتها وكثرة تأملها في المرآة يقال أنها أصيبت بالعمى! 

وفي رواية أخرى تقول أنّ داي الجزائر أراد أن يقدّم لزوّاره والسّفراء الذين تجمّعوا في قصره شيئا يستدعي الإبهار، فأراد أن يُعرف من إسمه أمام الأوروبيين بأن يبرز ذوقه الرفيع في اختيار الجمال، فطلب من نساء قصره تزيين خداوج وإخراجها للزوار، وبعد ساعات من العمل صارت «خداوج» مثل البدر في ليلة اكتماله، شهقت النّساء أمام هذا الجمال، فأرادت «خداوج» أن تتأكّد من مظهرها بنفسها، فنظرت في المرآة لتصاب بصدمة من فرط جمالها ما أدّى إلى إصابتها بالعمى، وصارت منذ ذلك الزمان تلقّب بـ «خداوج العمية.

 وبعد أن فشل الأطباء والحكماء في علاجها، وخوفا على مصيرها، قّرر والدها أن يهديها القصر الذي يقطنون فيه ضمانا لمستقبلها بعد موته.
تعودت خداوج على حياتها الجديدة وعاشت في القصر مع أبناء أختها عمر ونفيسة اللذان اعتنيا بها، الأمر الذي زادها حبا وتعلقا بالحياة، ليسمى بعد وفاتها بـ "دار خداوج العمياء".

التصميم العمراني والزخرفة المعتمدة في القصر، حكاية الزمان والمكان، تظهر اهتمام القدامى  الشديد بفن العمارة.


والقصر تصميم عمراني خاص بالعثمانيين، أسرت هندسته نابليون، فبعد دخول الغزاة الفرنسيين إلى الجزائر عام 1830 تمّ تعويض مُلاّكه بمال زهيد ليصبح مقرا لأول بلدية فرنسية بالجزائر العاصمة، لكن بالنظر إلى بهائه ورونقه لم يستطع ملك فرنسا آنذاك نابليون الثالث وزوجته كتمان عشقهما لهذا الصّرح، فاتّخذه نابليون مقاما له اعتبارا من سنة 1860، فكلّما حلّ بالجزائر العاصمة إلاّ وتوجه مباشرة إلى هذا القصر، ليقضي ملك فرنسا مدّة زيارته للجزائر في أحضان دار الأميرة الكفيفة، وليحوّل في سنة 1961 إلى متحف للفنون الشعبية، ليصبح بعدها في عام 1987 متحفا وطنيا للفنون والتّقاليد الشعبية يضمّ آلاف التّحف الفنية التّقليدية.

في مدخل القصر نجد ما يسمى بالزريبة وهي مكان تجمع فيه الدواب، لتليها الدريبة، فيها نجد حنفية للاغتسال قبل الدخول إلى السقيفة التي تحوي ممرا طويلا ذي سقف مقبب وسميك ينتهي على جوانبه بأقواس جدارية مجوفة ومحمولة على أعمدة رخامية، وعدد الأقواس من جهة اليسار أربعة، هي مفصولة بثلاثة أعمدة، يأخذ كل عمود شكلا حلزونيا، بينما نجد قوسين بالجهة اليمنى.

يتكون القصر من ثلاث طوابق مختلفة  التكوين،  حيث يفضي الطابق الأرضي الى درب أو زقاق صغير تحمل بصماته جداريات من الزخارف الرخامية، أما الطابقين الثاني والثالث فيحتويان مشربية السلطان وصفٍّ من الغرف  كانت في أيام عز السلاطين تستعمل للنوم والاستراحة، ومنها ما كان مخصصا للحمامات التركية .

الدخول إلى القصر دعوة ملحّة للسفر عبر الزمن 

وأنت  تتجول داخل القصر تشدك كثيرا تلك المقتنيات النادرة فيه، من تحف وأثاث وصور وحُليّ فضية عتيقة ونادرة، تعود لعدة حقب من الزمن، جمعها بعض المولعين بالتحف الفنية وجادوا بها على قصر خديجة أو المدللة خداوج، لما تحمله هذه الشخصية من محبّة وولع لكل من قرأ حكايتها وزار قصرها.




https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1057356004414463&id=345383252278412



ويبقى قصر خداوج العمياء معلما تاريخيا معبقا بسحر الماضي يجلب إليه كل من يعشق العمارة الإسلامية والزخارف الفنية العثمانية، ومتحف يفتح أبوابه لكل متذوقٍ للجمال.



الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

  تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام...