من العاصمة الجزائر، نربط حقائبنا لنسافر شرقا على بعد بضع كيلومترات، حتى نشهد لحظة إلتقاء الخيال بالحقيقة، وعلى مشارف مدينة سميّت بعروس البحر نشاهد سحر الحقيقة، ودهشة الخيال.
مع ساعات الصباح الأولى، كانت وجهتنا ركنا عجيبا من ربوع الجزائر، البلد القارة، لنصل إلى منطقة تتنفس حضارة وتاريخا! نمشي في شوارعها بخطى وئيدة، نشم عبق الأصالة المزهو بحقبات تاريخية للماريّن من هنا، إنها تادلس، أو دلس، ثاذلسث، شجيرة الديس التي استغلها الإنسان منذ القدم في العمران، يغذي بها مواشيه، ويصنع الحبال، لتبقى إلى غاية اليوم تستغلّ في صناعة المظلاّت التي تتزوّد بها شواطئ البحرلتوفير الراحة للمصطفين.
من هي دلس عروس البحر
البلدة القرطاجية التي بنيت لتكون لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط منذ القرن الثاني قبل الميلاد. قرّرنا أن نغوص في مدينة قوامها خمسة وعشرون قرنا من التاريخ، نكتشف مجاهل شجرة الديس، أحد أقدم المرافئ التي أقامها الفينيقيون.
رأس الحوت، أَكثر الموانئ البحرية أمناً على طول الساحل الجزائري، وصفها الباحث الجزائري فوزي سعد الله قائلا: “هذه الأندلس المنسية، هذه الجنة! في هذه البلدة الصغيرة الواقعة على مشارف منطقة القبائل، لا يزال بإمكاننا مقابلة الحكماء القدامى المتأصلين بعمق في المنطقة، يتجولون في القصص القديمة بين حاراتها وأزقّتها.
بين تلك الحارات القديمة نمشي، ولا شعور هنا بالتعب، حيث يزيّن ذلك الركن القديم القابع منذ قرون النسيج العمراني للمدينة، إنٌها قصبة دلس، أو حومة الميزاب، منطقة مرتفعة شيّدها العثمانيون في القرن السادس عشر الميلادي، وحصّنوها بسور ذو أبواب متعددة.
القصبة تميزها البيوت المزينة بالشرفات المُطِلّة على البحر الأبيض المتوسط، والأروقة الضيقة والبساتين الدائمة الإزهار والاخضرار، والتي كانت تحتوي على أشجار ونباتات متنوعة ونادرة منها شجرة القهوة التي لا يكاد يوجد لها أثر بالجزائر كلها في وقتنا الحالي! ونجد المسجد، ومقام سيدي سوسان، وضريح الولي الصالح سيدي الحرفي. وأشتهر ذلك العصر بإزدهار الثقافة والفلاحة وتحسن المنتوج من صيد الأسماك، وفي الطرف الثاني من المدينة تقابلك تلك البنايات الأوروبية الجديدة التي بنيت أثناء الحقبة الاستعمارية الفرنسية والتي تمتد على طول الساحل، وهي ما تعرف حاليا بالمدينة الجديدة.
دلْس ذكرها الرحّالة والمؤرخون، فكتب عنها ابن خلدون، وابن حوقل والبكري والإدريسي، والشاعر يوسف السنوسي، فحين أسّس القرطاجيون مدينة دلس في القرن السادس قبل الميلاد، من المؤكد حينها أنّهم كانوا يملكون نظرة استشرافية للمستقبل، وإلاّ لما تركوا لنا كل هذه الكميّة من الجمال وسحر الأمكنة التي تسحر الألباب قبل العقول!
يؤكد المؤرخ الجزائري محمد لمين بلغيث من جانبه وصول موجة من المنفيين المسلمين من فالنسيا عبر تونس إلى “تادليس” أي “دلس حاليا”، ويخبرنا مصطفى حاج قويدر محافظ التراث بولاية بومرداس أن دلس لجأ إليها نحو ثلاثين ألف أندلسي بعد سقوط غرناطة، فأخذت عنهم عمارة البيوت المزدانة بالرياض، وورث سكانها عنهم غرس الزهور، ونشروا اللسان العربي بين السكان الأمازيغ، وتتميّز المدينة بأراضيها الخصبة التي يرويها وادي سيباو في جزئها الغربي.
بروسو كوروس…أقدم مدينة بحرية
إنها حكاية الشعراء، وعطر أخّاذ، تنهض هازمة لكل رياح النسيان التي تلوح في سماء تاريخها الممتدّ عبر العصور، وعشق يجري في عروق دماء كل من يعشق آيات اللّه في تصوير الجمال والطبيعة العذراء.
خمسون كليومتر مربع هي مساحة دلس بمرتفعات ولاية بومرداس الساحلية، يسكنها أربعون ألف نسمة، تقع على بعد ثمانين كيلومتر شرق الولاية، تتوسط العاصمة الجزائر وولاية تيزي وزو، ورغم أن المدينة قد مرّت عليها حقبات تاريخية متعدّدة إلاّ أنها لا تزال تحافظ على طابع عمراني متفرد، يجعل منها تستحق اسم الأندلس الصغيرة بلا منازع.
فقد تحولت المدينة في منتصف القرن الأول الميلادي إلى مستعمرة رومانية، وجاء اليونانيون ليضيفوا للمدينة إرثا زاخرا في عديد المجالات، واتسم ذلك العهد بالرخاء،خاصة خلال العام خمسين ميلادي الذي حكم فيه الإمبراطور كلوديوس، وسميت المدينة آنذاك بروسو كوروس، وتعتبر أقدم مدينة بحرية، ولا تزال الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤرخ للحقبة الرومانية قائمة إلى اليوم كالأسوار القديمة، ومنابع سيدي سوسان.
كما تعززت المدينة ببعض الآثار التي عثر عليها مؤخرا من الحلي والأواني الفخارية والفسيفساء، التي ضعت في متحف الجزائر حفاظا على استمراريتها، تقدم موروثا حضاريا للأجيال القادمة، ومن أهم مشاهير الأعلام الذين ارتبط اسمهم بمدينة دلس نجد البويصري صاحب البردة.
شهدت المدينة تغييرا كبيرا إن لم نقل شبه كامل في البناء والنمط المعماري بسبب العوامل الطبيعية كالزلازل أو بسبب الحروب والغزوات وما لحقها من تدمير بشري لمعالمها، غير أنّ قدوم العرب إليها أنقذ المدينة وأعاد لها رونقها، فقد أعادوا بناءها مرة أخرى بما أمكنهم من وسائل ليحافظوا على وجه المدينة التاريخيّ العتيق.
ثم بعد ذلك جاء الحماديون وسيطرو على المدينة، واستقر فيها معز الدولة بن صمادح، بعد سيطرة المرابطين على الأندلس في العام ألف وثمانية وثمانين 1088 م، وتعاقبت القبائل العربية على المدينة دلس، فكان لكل قبيلة بصمتها في المكان، ومرّ من هنا أيضا الأخوين عرّوج وخير الدين بربروس، الذيّن اتخذا من المدينة مقرا لهما لتكون مركزا يسيطرون من خلاله على مدن ومناطق أخرى كانت في قبضة الإسبان آنذاك.
وبعد سبع سنوات من الحملة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر سقطت مدينة دلس في يد الفرنسيين أي في العام ألف وثمانمائة وسبعة وثلاثين 1837 م، أصبحت لؤلؤة البحر المتوسط أسيرة الاحتلال مثلها مثل باقي المدن الإستراتيجية في الجزائر على غرار المحروسة بالله البهجة مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، العاصمة الجزائر حاليا.
يذكر أنّ الماريشال بيجو قاد هذه الحملة بنفسه لما تملكه المدينة من مكانة وموقع جيواستراتيجي، وتجدر الإشارة أن الفرنسيين نهبوا الكثير من الآثار من مدينة دلس وأخذوها إلى فرنسا، وهي موجودة حاليا بمتحف اللوفر بباريس!
زارها الأمير عبد القادر وأقام بها ثمانية ليال سنة 1838
وفي العام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين 1844 م سيطرت فرنسا على المدينة بالكامل، قاومت المدينة بكل نسيجها العمراني غدر العدو الفرنسي وتصدت لكل الهجمات التي أرادت محو تاريخها وكابدت كل الصعاب برجالها ومقاوميها فكانت من أوائل المدن الجزائرية التي نفذ فيها جيش التحرير الوطني عمليات بطولية ضد المستعمر الفرنسي الغاشم خلال ثورة نوفمبر 1954 المباركة.
ثم نالت الجزائر الاستقلال ليطردَ الجزائريون الاستعمار الفرنسي من كامل التراب الجزائري، واحتفلت مدينة دلس مثلها مثل باقي المدن الجزائرية بالنصر والحرية، كل مكان في مدينة دلس لم يستطع أن يخفي الوجه الشاحب الذي مرّ عليها خلال سنوات الجمر، فشواهد كثيرة لازالت راسخة في أذهان التادلسيّين، تظهر مدى قساوة تلك الفترة التي لم تخلّف سوى الحزن والدمار لعقد من الزمن، لم تستطع الأيام محوه إلى اليوم!
رحلة عبر المدينة
نغلق دفتر الحزن لنستمر في سرد حكايا المدينة الساحرة، نمشي ونحن نتجول بأنظارنا عبر مساحات ممتدّة على مرمى البصر، ونقلّب صفحات الطبيعة لنرى تلك اللوحات التي أفردها الخالق لتميّز مدينة تشبه سحر الأندلس هناك خلف الأزرق في الضفة المقابلة.
ومدينة دلس وجهةً سياحيّة بامتياز، يقصدها آلاف الزُوّار المحلّيين على مدار السنة، ويتوافد السياح الأجانب من دول عدّة لتاريخية المكان، يتعرفون على سحر طبيعتها، ويشاهدون آثار تلك الحضارات القديمة التي تعاقبت عليها عبر الزمن، والتي تستدعي الدراسة والبحث والاهتمام، فضلاً عن كونِها تتربّع على مساحة على طول الساحل.
ولا يمكن للباحثين عن سحر الطبيعة العذراء، والمناظر الخلابة الموجودة فيها أن يفوّت زيارتها، وألاّ تكون ضمن أهم المدن التي تدرج ضمن قائمة الأماكن التي يجب الوقوف عندها عند زيارة الجزائر.
من أهم معالمِ المدينة نجد زاوية سيدي المجني، سيدي الحرفي، القصبة العتيقة، كما فصّلنا آنفًا المسجد الكبير الذي رُمِّم مؤخرا، ومنارة بن قوت أو برج فنار حسب ما تشتهر به، والتي تقع بميناء دلس الشهير.
No comments:
Post a Comment