Thursday, 5 August 2021

الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

 



تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام ويساهم بشكل فعال في إضافة عناصر متعددة.

ولكل بلد أكلات شعبية تقليدية تتوارثها الاجيال عبر السنين، إبتدعها الأجداد ليسير على دربهم الأحفاد.

في الجزائر يزخر المطبخ الجزائري بقائمة لا حصر لها من المأكولات التقليدية على غرار الكسكسي والبركوكس والرشتة.

هذه الأخيرة تعدّ موروثا تقليديا متجدرا في القدم، تفضله العائلات العاصمية ومناطق الوسط الجزائري، وتعتبر أهم طبق في موسم المولد النبوي الشريف على وجه الخصوص.

يتم تحضير الرشتة بالطهي على البخار حتى تصبح ناضجة، على عكس الكنافة التي تحضر بوضعها على صفيحة ساخنة، وبالرغم من أنّهما يتشابهان في الشكل الخارجي، إلا أن لكل واحدة مكوناتها ومذاقها، وبالتأكيد طريقة تحضيرها.
والرشتة عبارة عن خيوط رفيعة وطويلة من العجين المصنوع من الدقيق والملح، بحيث يراوح سمكها بين الشعيرية العربية والسباغيتي الإيطالية، ونجد الرشتة التي تُبَاع في السوق جاهزة، بالمقابل هناك عائلات لا تزال تصنَعها في بيوتها بطرق تقليدية،  بآلة مخصصة لذلك، ثم تطهى في الكسكاس وهو إناء به ثقوب يوضع فوق القدر، ويبدأ تبخيرها بعد وضع كمية قليلة من الزيت والتوابل عليها، بالموازاة يحضر المرق الذي يكون مصاحبا لخيوط عجين الرشتة عند التقديم، ويوضع فيه دجاج أو لحم وتوابل وحمص وبعض من اللفت والكوسى أو القريع، وتكون إما حمراء فتضاف الطماطم إليها، أو بيضاء، وهي المتداولة بكثرة، وبعد أن تجهز الأكلة وتوضع في الطبق تضاف إليها رشة من القرفة التي تضفي سحرا خاصا ونكهة متفردة تميز هذا الطبق وتجد نفسك مأسورا  برائحتها الشهية.

https://pin.it/2ELso3c

يعود أصل تسمية الرشتة  إلى أصول فارسية، وتحديداً إلى كلمة  تارشتا، ورشت، وتعني الخيط، أو خيوط العجين، ولا تزال إلى يومنا هذا تُدعى تارشتا في مدينة تلمسان، كما يتمّ تناولها في بعض المدن بالجنوب التونسي، وليبيا أيضا، وفي لبنان يضيفون إليها العدس ويقدمونها على شكل شوربة.

وعن زمن تواجدها بشكل دقيق فإن المصادر لم تتوصل إلى وقت أو مكان محددين لذلك، غير أنه ورد اسم طبق الرشتة في كتاب رحلة ابن خلدون غربًا وشرقًا،  حين توجه ابن خلدون من بلاد الشام في العام 803 هجرية إلى القائد المغولي المسلم تيمورلنك، كسفير دبلوماسي لطلب السلام، حين إستعان به أهل دمشق للمفاوضة معه، فدوّن رحلته هذه في كتابه "تاريخ ابن خلدون"، غير أن هذا الأمر لا يستند إلى تأكيد أو نفي.
ونجد في الصفحة 4804 من كتاب ابن خلدون هذا، وفي طبعته الصادرة عن دار الفكر في بيروت الفقرة التالية: "ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه "الرشتة" ويُحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأُحضِرت الأواني منه و أشار بعرضها عليّ، فمثلتُ قائماً وتناولتها وشربت واستطبت، وقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا".

وفي غياب مراجع تاريخية حاسمة في الموضوع، فإنه من المرجح أنّ ابن خلدون ذكر طبق "الرشتة" الذي عرفه في الجزائر، وشبهه بالطبق الذي قدم له أثناء لقائه بتيمورلنك.




ويبدو ظاهرا للجميع أن هذا الطبق قد قطع أشواطا من  تاريخ وجغرافيا الشعوب حتى وصل إلى المغرب العربي، وبالتحديد إلى الجزائر! ولعلّ لابن خلدون يداً في ذلك، فآثر أن يترك موطنه الأصلي في بلاد فارس ليستقر بين أحضان بلاد الأمازيغ، وفي مطابخ العائلات الجزائرية التي تعشق هذا الطبق وتتهافت في كل مناسبة لاقتناء مايتطلب من مكونات لتحضيره، ويجتمع عليه كل الأهل و الأحبة والجيران، وتسارع في تبادل الأطباق في الحي والجامع  تجمعهم موائد المحبة والتآزر كما تجتمع خيوط عجين الرشتة!

 لتصبح جزءً من العادات والتقاليد العربية التي تتشبع بثرائها و غناها وتنوعها، ما يجعل المهتمين باكتشاف العادات والتقاليد لمختلف الشعوب، يندهشون من عمق هويتها الثقافية والتاريخية والحضارية.

وإن ثبت أن طبق الرشتة الذي تحدث عنه ابن خلدون هو ذاته طبق الرشتة المشهور عندنا، فهذا يجعلنا نقول ان لابن خلدون يدا في نقل هذا الطبق الينا.
وتبقى هذه الرقائق المستخلصة من المعجنات والتي يضاف إليها المرق واللحم والخضروات بشكل أنيق وشهي، يزين موائد العائلات الجزائرية في معظم مناطق الوطن خصوصا في الآونة الأخيرة، فقد شهدت العشر سنوات المتتاليه عودة العائلات إلى تقديم طبق الرشتة بشكل مثير للإهتمام، ما يعني أن الأجيال هذه لا يمكنها نسيان أصالتها وتقاليدها في خضم التقدم التكنولوجي وموضة الأكل السريع. 


"دلس" عروس البحر، مدينة الدهشة، وتاريخ يكابد النسيان



 من العاصمة الجزائر، نربط حقائبنا لنسافر شرقا على بعد بضع كيلومترات، حتى نشهد لحظة إلتقاء الخيال بالحقيقة، وعلى مشارف مدينة سميّت بعروس البحر نشاهد سحر الحقيقة، ودهشة الخيال.

مع ساعات الصباح الأولى، كانت وجهتنا ركنا عجيبا من ربوع الجزائر، البلد القارة، لنصل إلى منطقة تتنفس حضارة وتاريخا! نمشي في شوارعها بخطى وئيدة، نشم عبق الأصالة المزهو بحقبات تاريخية للماريّن من هنا، إنها تادلس، أو دلس، ثاذلسث، شجيرة الديس التي استغلها الإنسان منذ القدم في العمران، يغذي بها مواشيه، ويصنع الحبال، لتبقى إلى غاية اليوم تستغلّ في صناعة المظلاّت التي تتزوّد بها شواطئ البحرلتوفير الراحة للمصطفين.

https://pin.it/3T2eCes



من هي دلس عروس البحر


البلدة القرطاجية التي بنيت لتكون لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط منذ القرن الثاني قبل الميلاد. قرّرنا أن نغوص في مدينة قوامها خمسة وعشرون قرنا من التاريخ، نكتشف مجاهل شجرة الديس، أحد أقدم المرافئ التي أقامها الفينيقيون.


رأس الحوت، أَكثر الموانئ البحرية أمناً على طول الساحل الجزائري، وصفها الباحث الجزائري فوزي سعد الله قائلا: “هذه الأندلس المنسية، هذه الجنة! في هذه البلدة الصغيرة الواقعة على مشارف منطقة القبائل، لا يزال بإمكاننا مقابلة الحكماء القدامى المتأصلين بعمق في المنطقة، يتجولون في القصص القديمة بين حاراتها وأزقّتها.


بين تلك الحارات القديمة نمشي، ولا شعور هنا بالتعب، حيث يزيّن ذلك الركن القديم القابع منذ قرون النسيج العمراني للمدينة، إنٌها قصبة دلس، أو حومة الميزاب، منطقة مرتفعة شيّدها العثمانيون في القرن السادس عشر الميلادي، وحصّنوها بسور ذو أبواب متعددة.


القصبة تميزها البيوت المزينة بالشرفات المُطِلّة على البحر الأبيض المتوسط، والأروقة الضيقة والبساتين الدائمة الإزهار والاخضرار، والتي كانت تحتوي على أشجار ونباتات متنوعة ونادرة منها شجرة القهوة التي لا يكاد يوجد لها أثر بالجزائر كلها في وقتنا الحالي! ونجد المسجد، ومقام سيدي سوسان، وضريح الولي الصالح سيدي الحرفي. وأشتهر ذلك العصر بإزدهار الثقافة والفلاحة وتحسن المنتوج من صيد الأسماك، وفي الطرف الثاني من المدينة تقابلك تلك البنايات الأوروبية الجديدة التي بنيت أثناء الحقبة الاستعمارية الفرنسية والتي تمتد على طول الساحل، وهي ما تعرف حاليا بالمدينة الجديدة.


دلْس ذكرها الرحّالة والمؤرخون، فكتب عنها ابن خلدون، وابن حوقل والبكري والإدريسي، والشاعر يوسف السنوسي، فحين أسّس القرطاجيون مدينة دلس في القرن السادس قبل الميلاد، من المؤكد حينها أنّهم كانوا يملكون نظرة استشرافية للمستقبل، وإلاّ لما تركوا لنا كل هذه الكميّة من الجمال وسحر الأمكنة التي تسحر الألباب قبل العقول!


يؤكد المؤرخ الجزائري محمد لمين بلغيث من جانبه وصول موجة من المنفيين المسلمين من فالنسيا عبر تونس إلى “تادليس” أي “دلس حاليا”، ويخبرنا مصطفى حاج قويدر محافظ التراث بولاية بومرداس أن دلس لجأ إليها نحو ثلاثين ألف أندلسي بعد سقوط غرناطة، فأخذت عنهم عمارة البيوت المزدانة بالرياض، وورث سكانها عنهم غرس الزهور، ونشروا اللسان العربي بين السكان الأمازيغ، وتتميّز المدينة بأراضيها الخصبة التي يرويها وادي سيباو في جزئها الغربي.


بروسو كوروس…أقدم مدينة بحرية

إنها حكاية الشعراء، وعطر أخّاذ، تنهض هازمة لكل رياح النسيان التي تلوح في سماء تاريخها الممتدّ عبر العصور، وعشق يجري في عروق دماء كل من يعشق آيات اللّه في تصوير الجمال والطبيعة العذراء.


خمسون كليومتر مربع هي مساحة دلس بمرتفعات ولاية بومرداس الساحلية، يسكنها أربعون ألف نسمة، تقع على بعد ثمانين كيلومتر شرق الولاية، تتوسط العاصمة الجزائر وولاية تيزي وزو، ورغم أن المدينة قد مرّت عليها حقبات تاريخية متعدّدة إلاّ أنها لا تزال تحافظ على طابع عمراني متفرد، يجعل منها تستحق اسم الأندلس الصغيرة بلا منازع.



فقد تحولت المدينة في منتصف القرن الأول الميلادي إلى مستعمرة رومانية، وجاء اليونانيون ليضيفوا للمدينة إرثا زاخرا في عديد المجالات، واتسم ذلك العهد بالرخاء،خاصة خلال العام خمسين ميلادي الذي حكم فيه الإمبراطور كلوديوس، وسميت المدينة آنذاك بروسو كوروس، وتعتبر أقدم مدينة بحرية، ولا تزال الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤرخ للحقبة الرومانية قائمة إلى اليوم كالأسوار القديمة، ومنابع سيدي سوسان.


كما تعززت المدينة ببعض الآثار التي عثر عليها مؤخرا من الحلي والأواني الفخارية والفسيفساء، التي ضعت في متحف الجزائر حفاظا على استمراريتها، تقدم موروثا حضاريا للأجيال القادمة، ومن أهم مشاهير الأعلام الذين ارتبط اسمهم بمدينة دلس نجد البويصري صاحب البردة.


شهدت المدينة تغييرا كبيرا إن لم نقل شبه كامل في البناء والنمط المعماري بسبب العوامل الطبيعية كالزلازل أو بسبب الحروب والغزوات وما لحقها من تدمير بشري لمعالمها، غير أنّ قدوم العرب إليها أنقذ المدينة وأعاد لها رونقها، فقد أعادوا بناءها مرة أخرى بما أمكنهم من وسائل ليحافظوا على وجه المدينة التاريخيّ العتيق.


ثم بعد ذلك جاء الحماديون وسيطرو على المدينة، واستقر فيها معز الدولة بن صمادح، بعد سيطرة المرابطين على الأندلس في العام ألف وثمانية وثمانين 1088 م، وتعاقبت القبائل العربية على المدينة دلس، فكان لكل قبيلة بصمتها في المكان، ومرّ من هنا أيضا الأخوين عرّوج وخير الدين بربروس، الذيّن اتخذا من المدينة مقرا لهما لتكون مركزا يسيطرون من خلاله على مدن ومناطق أخرى كانت في قبضة الإسبان آنذاك.


وبعد سبع سنوات من الحملة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر سقطت مدينة دلس في يد الفرنسيين أي في العام ألف وثمانمائة وسبعة وثلاثين 1837 م، أصبحت لؤلؤة البحر المتوسط أسيرة الاحتلال مثلها مثل باقي المدن الإستراتيجية في الجزائر على غرار المحروسة بالله البهجة مدينة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، العاصمة الجزائر حاليا.


يذكر أنّ الماريشال بيجو قاد هذه الحملة بنفسه لما تملكه المدينة من مكانة وموقع جيواستراتيجي، وتجدر الإشارة أن الفرنسيين نهبوا الكثير من الآثار من مدينة دلس وأخذوها إلى فرنسا، وهي موجودة حاليا بمتحف اللوفر بباريس!


زارها الأمير عبد القادر وأقام بها ثمانية ليال سنة 1838

وفي العام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين 1844 م سيطرت فرنسا على المدينة بالكامل، قاومت المدينة بكل نسيجها العمراني غدر العدو الفرنسي وتصدت لكل الهجمات التي أرادت محو تاريخها وكابدت كل الصعاب برجالها ومقاوميها فكانت من أوائل المدن الجزائرية التي نفذ فيها جيش التحرير الوطني عمليات بطولية ضد المستعمر الفرنسي الغاشم خلال ثورة نوفمبر 1954 المباركة.


ثم نالت الجزائر الاستقلال ليطردَ الجزائريون الاستعمار الفرنسي من كامل التراب الجزائري، واحتفلت مدينة دلس مثلها مثل باقي المدن الجزائرية بالنصر والحرية، كل مكان في مدينة دلس لم يستطع أن يخفي الوجه الشاحب الذي مرّ عليها خلال سنوات الجمر، فشواهد كثيرة لازالت راسخة في أذهان التادلسيّين، تظهر مدى قساوة تلك الفترة التي لم تخلّف سوى الحزن والدمار لعقد من الزمن، لم تستطع الأيام محوه إلى اليوم!

رحلة عبر المدينة

نغلق دفتر الحزن لنستمر في سرد حكايا المدينة الساحرة، نمشي ونحن نتجول بأنظارنا عبر مساحات ممتدّة على مرمى البصر، ونقلّب صفحات الطبيعة لنرى تلك اللوحات التي أفردها الخالق لتميّز مدينة تشبه سحر الأندلس هناك خلف الأزرق في الضفة المقابلة.


ومدينة دلس وجهةً سياحيّة بامتياز، يقصدها آلاف الزُوّار المحلّيين على مدار السنة، ويتوافد السياح الأجانب من دول عدّة لتاريخية المكان، يتعرفون على سحر طبيعتها، ويشاهدون آثار تلك الحضارات القديمة التي تعاقبت عليها عبر الزمن، والتي تستدعي الدراسة والبحث والاهتمام، فضلاً عن كونِها تتربّع على مساحة على طول الساحل.


ولا يمكن للباحثين عن سحر الطبيعة العذراء، والمناظر الخلابة الموجودة فيها أن يفوّت زيارتها، وألاّ تكون ضمن أهم المدن التي تدرج ضمن قائمة الأماكن التي يجب الوقوف عندها عند زيارة الجزائر.


من أهم معالمِ المدينة نجد زاوية سيدي المجني، سيدي الحرفي، القصبة العتيقة، كما فصّلنا آنفًا المسجد الكبير الذي رُمِّم مؤخرا، ومنارة بن قوت أو برج فنار حسب ما تشتهر به، والتي تقع بميناء دلس الشهير.


https://pin.it/1H5tvwT

وتبقى مدينة دلس إرثا حضاريا وقامة تاريخية، تستدعي اهتماما أكبر من طرف كل الجهات مسئولين وشعبا وزائرين، وينبغي تعزيز الحس الثقافي والسياحي، حتى نضمن لنا ولمستقبل الأجيال القادمة مكانة في قارب الموروث الحضاري المهدد بالزوال في حال ما إذا لم نهتم بما نملك من ثروة سياحية.


Monday, 26 July 2021

البوقالة موشحات وتعابير موزونة.. تجتمع عليها النساء الجزائريات، تعقدن النيّة وتنتظرن الفأل والبشارة



  بسم الله بديت وعلى النبي صليت،وعلى الصحابة رضيت، ومع حبابي هاد البوقالة نويت، يا ربي أعطينا الفال، ولاقينا بولاد الحلال.
هكذا تبدأ النسوة سهراتها الرمضانية وهي تجتمع على سطح البيوت المتراصة، في منزل إحداهن ، أو في وسط الدار وعلى ضوء القمر، في دويرات القصبة العتيقة بالعاصمة الجزائر مرورا بالمدن القريبة كشرشال، والقليعة وصولا إلى تلمسان بالساحل الغربي لتنتشر بعدها في وقتنا الحالي إلى أغلب المناطقالجزائرية، وحتى إلى البلدان المجاورة ليبيا تونس والمغرب. 


بعد أن يخرج الرجال والأطفال إلى الجوامع لصلاة التراويح، أو إلى المقاهي والحومات "الحارات" ليتسلو بألعاب الشطرنج والنرد وشرب الشاي أو القهوة،  تتسامر النسوة إلى ساعات الفجر الفجر الأولى حين تهدأ المدينة.

البوقالة التسلية الوحيدة التي كانت تعقد البنات العازبات آمالهن ونياتهن مع أطراف أثوابهن، علّها تصعد إلى السماء مع دخان البخور والجاوي الذي يُحرق على الكانون أو النافخ، وتتحقق مع خيوط الفجر الأولى، لتجد حديث النسوة في اليوم الموالي حول فتاة أفرحها فأل البوقالة ليلة البارحة، وأخرى أحزنتها وكدّرت أبياتها صفوها!


حقيقة التسمية وأصلها

  لا يختلف اثنان على أنّ البوقالة هي موروث شفاهي شعبي جزائري ضارب في القدم، تمارسه النساء الجزائريات في المناسبات و الأعراس والسهرات الرماضانية، رغم أن المؤرخين قد تباينت تحليلاتهم وتفسيراتهم في أصل البوقالة وتاريخها.

فبين من يرجع أصولها إلى الأتراك مع مجيء العثمانيين إلى الجزائر، وبين من يقول أن البوقالة تشبه طقوس سحر  لجماعات أورثوذوكسية، ومن يقول أن أصلها فينيقي، وصولا إلى عهد الفينيقيين بمدينة تيبازة و شرشال على وجه التحديد.

إلا أنه يتفق الجميع أن البوقالة في المخيال الجمعي لم تُختر إلاّ لتكون لسانا يُترجم به ماتجود به الذاكرة الجماعية من حفظ لتراث الموشّحات الأندلسية والشعر الشعبي.

وتشير بعض الروايات إلى أن اللوحة المشهورة للتشكيلي الفرنسي أوجين دولاكروا(1798 ـ 1863) التي أبدع فيها في العام 1834 بعنوان « نساء الجزائر في مخدعهن» وأعاد صياغتها بتفاصيل أكثر دقه عام 1849 استنبطها من حضوره جلسة «بوقالة» في إحدى ليالي رمضان بحي القصبة العتيق في العاصمة الجزائري، ويبقى هذا بطبيعة الحال بحاجة على تأكيد وتدقيق.


أعقد وأنوي..هكذا تبدأ طقوس اللعب

  عند البدء في طقوس البوقالة، قد يظهر للبعض أنها مستوحات من طقوس قديمة كلوح الروح او ما يعرف بلوح الويجا، أو حتى بعض التشبيه بالعرافة عن طريق الماء او ما يسمى "بالهيدرومنسيا"، ويرجع الكارهون البوقالة رأيهم إلى بعض البوقالات التي تحتوي عبارات من أمثلة استحضار الجن كما نجد في هذه البوقالة: "هبطت لقاع البحر،فرّشت زربية، خرجت لي جنية، قالت لي واش بيك يا بنية؟ قلت لها راحوا حبابي وخلاوني وحدانية"، أو استهجانهم لبعض الكلمات التي ترددها العارفة في بداية اللعبة مثل: "بخرتك بالجاوي جيبلنا الخبر من القهاوي، بخرتلك بالحنة جيبلنا الخبر من مزغنة، بخرتلك بالزيت جيبلنا الخبر من كل بيت”وينعتها البعض ببعدها عن العرف وتعاليم الدين ، "يما يما ديريلي تويقة في وسط الحديقة باش نشوف زهري كي تجيبو ذيك الوريقة"، أو فيما يتعلق بالعقد وهو عقد أطراف الثياب، استنادا للآية الكريمة: ومن شرّ النفّاثات في العقد"، والتطير بالفأل إن استعصى فتح العقدة فيما بعد.

  غير أنّ هذا بعيد كل البعد عن ممارسة لعبة البوقالة كما يؤكد ذلك أكثر باحث في تاريخ البوقالة "قدور المحمصاجي" الذي كتب كتابا باللغة الفرنسية  سنة 1989 سماه :" لعبة البوقالة.. مساهمة في معرفة أحسن لهذه التسلية التربوية والشعبي"، كما أنّه قدّم العديد من الحصص الإذاعية والتلفزيونية، تناول فيها موضوع البوقالة، كموروث سوسيولوجي يحاكي عادات النساء في القديم، حتى وإن تضمنت الكلمات التي ذكرناها سابقا، فهي إنما تعاز على جهل العوام ليس إلاّ.

وتؤكده أيضا التعابير التي نبدأ بها عند اللعب، فتبدا بالبسملة والصلاة على النبي، والدعوة إلى الدعاء والتضرع لله عز وجل ورجائه لتحقيق الأمنيات مثل: 

"لو كان السعود تنغرس بالعود نغرس ميات عود وعود في أرضي، لكن السعود بيدك يا الله يا معبود، ياسقام السعود سقملي سعدي".

"امّنت بالله، والمنام رؤية من عند الله، حمامة بيضة جات ترفرف عليّ، معاها حصان توقّف بين يديّ".

"الناس تنده بالرجال والوالي، وانا ننده بربي العالي".

عند البدء تتزيّن النسوة بملابسهن التقليدية، وبأبهى ما تملكن من حليّ فضة أوذهب، يتعطرن، ويحضرن مائدة جميلة عليها مالذّ وطاب من حلويات تقليدية، البقلاوة، المقروط، المحنّشة، المعذبات والقريوش، مرفوقة بابريق الشاي الأخضر بالنعناع والقرنفل، وعلى المائدة النحاسية، تحضر النسوة البوقال "وهي كلمة أمازيغية أصل تسمية البوقالة"، وهو عبارة عن إناء فخاري يوضع داخله ماء، وتحته النافخ أو الكانون ويكون فيه فحم ليبخر البوقال على أنواع العود والجاوي والعنبر، بالإضافة إلى ماء الزَهْروالحناء والشموع، "وكلمة زَهْر باللهجة الجزائرية تعني الحظ".

تجتمع النسوة ويجلسن حول المائدة، وقد ترافقهن عازفة آلة موسيقية أحيانا، قيثارة،عود أو كمان، على ضوء القمر واشعال الشموع، في عتمة وسكون، يجعل المجتمِعات يخلون بذواتهن، ويفكرن براحتهن فيما يردنا عقد الفأل عليه.

ويفرغ داخل البوقال ماء، وتضع النساء خواتمهن أو حليّهن داخل البوقال ويرش بماء الزهر ويغطى بمنديل

تبدأ العارْفة وهي بالعادة امرأة كبيرة في السن تحفظ الموشّحات والأبيات الشعرية والتعابير عن ظهر الغيب، تطلب من الحاضرات أن تعقدن أطراف أثوابهن أو خمرهن، وينوين نيّة ما وينتظرن، ثم تلقي العارْفة على مسامعهن البوقالة، بعد ذكر الله والصلاة على رسول الله، ويطلب من إحداهن أو فتاة صغيرة أن تسحب خاتما واحدا من داخل البوقال، ويكون فأل البوقالة على صاحبة الخاتم، وقد تصرح المعنية بما نوته، أو تكتم سرّ نيتها، وهكذا إلى أن ينتهين جميعهن من العقد والنية،  واخراج الخواتم كلّها، ثم يسكب ذلك الماء في وقت متأخر من الليل على السطح أو الشرفة، وبالعادة يسكب على النباتات التي تزين أسطح وشرفات البيوت العتيقة، لإنتظار تحقيق الفأل على زعمهن.


الحديث عن الأحلام والأمنيات بالشعر والقافية

  وتبقى البوقالة التقليد النسوي الوحيد البعيد عن السلطة الذكورية تمارسه النسوة ويتسامرن بكلمات عن الحب العفيف والوجد والإنتظار ودعوة الخالق في الإجتماع بالأحباب والزواج، لقاء الأهل والأقارب، والإبتعاد عن الأعداء التي تشعل النسوة شموعا من أجلها، علّا تكون قريت من نور أو شعلة من ضياء يهديهم لطريق العودة إلى بيوتهم وحضن زوجاتهم وامهاتهم ولقاء محبوباتهم: “يا قايدين الشموع هاكو شمعة قيدوها بالاك الغايب يعود والفرحة نعاودوها”. وتخاطب البوقالة المشاعر والوجدان، وتؤرخ ببساطتها للتاريخ العتيق، العامر بالفخر والكلام الموزون الجميل.

كما نجد أن البوقالة لم تخرج يوما عن إطارها العام المتعلق بحبكة الزمان والمكان.


العودة إلى الأصل.. بوقالة وفال زين

  قد تتجاوز عدد البوقالات الشعبية المنتشرة حدود 500 بوقالة، غير أن المعروف أنها انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت في كافة أرجاء الجزائر شرقها وغربها، حتى وإن لم تقم بكافة تلك الطقوس، لكن الفتيات خاصة العازبات منهن يدأبن خلال رمضان بممارستها والتسلية مع العائلة، الآن نجد الكثيرات ممن يتحدثن أو ينشرن البوقالات والفأل الحسن على مواقع التواصل الاجتماعي، باختلاف الطرق، مكتوبة مسموعة أو مرئية، كما أنّا أصبحت من العادات التي لابد منها في الأعراس توزعها العروس وهي تحمل سلة فيها قصاصات ورقية مكتوبة عليها البوقالات مرفوقة ببعض الحلوة والمكسرات والورد، وهذا بعد الإنتهاء من "التصديرة"، وهي ارتداء العروس جميع ألبستها التقليدية والتباهي بها أما الحاضور.

في النهاية لا يسعنا إلاّ القول أن البوقالة تبقى جزءا هوما من تراث شفوي جزائري مليء بالزجل الجميل، والتعبير النابع من الإحساس بدرر الأبيات الشعرية التي هي في مجملها تجارب الحياة، أمثال وحكم وتعابير تربىّ عليها اللسان الجزائري الأصيل.

في الختام بكل حب نهديكم هذه البوقالة بعد بسم الله والصلاة على رسول الله: 

"رشّيت عتبة الباب بالزهر و الطّيب ، وسقيت كل الأحباب بالعسل و الزبيب ، و كى نسيت جاني جواب كنت نستناه من عند البعيد".





Monday, 29 March 2021

قصر خداوج العمياء..بين أسطورة الحكاية.. وسحر المكان



بيت من بيوت القصبة العتيقة بأعالي العاصمة الجزائر يفتح أبوابه أمام الزوّار قبل بدء عملية الترميم.

تحول القصر اليوم إلى متحف وطني يفتح أبوابه للزوار طيلة أيام الأسبوع ماعدا الجمعة. بدأت أشغال الترميم فيه في الجزء الأهم من القصر خلال الأشهرالأولى من عام2017، وهو الجناح الواسع أو بيت الضيافة؛ "الصالون" بالمسمى الحالي.

تُظهر الصور جوانب وضع أساسيات الترميم التي بدأت في العام 2008 م.
و للقصر حكاية هي أقرب منها إلى الأسطورة والخيال، لكن تناقلتها الألسن ولم يستطع أحد من المهتمين والمختصين نفيها أو إثبات صحتها، لكنها تبقى قصة جميلة تحكي حياة الناس الجزائريين أيام القرن السادس عشر ميلادي، حينما كانت الدولة العثمانية في أوج عطاءاتها، وتقول الحكاية :
عاشت الأميرة خداوج في قصر فخم أنيق بالقصبة السفلى، وبالضبط بحي يدعى "سوق الجمعة" مع والدتها ووالدها الحاكم حسن خزناجي، إلى جانب أختها الكبرى فاطمة.
كانت حياة البنت الصغرى خداوج، مختلفة عن بنات سنها في عصرها، وحتى عن أختها الكبرى. فقد لقيت من الدلال ما يكفيها، ومن المرح ما يرضيها، خصوصا من طرف الحاكم والدها، الذي منحها اهتماما مبالغا فيه. هذا ما جعلها تميل له باعتباره قائدا للأسطول البحري الجزائري، وأحد أعضاء الديوان "الخزينة" لدى الداي محمد بن عثمان، وذلك سنة 1792م.




  كان حسن الخزناجي كثير السفر، وفي إحدى سفرياته أحضر لابنته مرآة ثمينة مصنوعة من زجاج يلمع، يشبه الألماس مع زخرفة منقوشة تحيط بحواشيها، ومع مرور السنين ازدادت خداوج حسنا، ومن شدة ولعها بذاتها وكثرة تأملها في المرآة يقال أنها أصيبت بالعمى! 

وفي رواية أخرى تقول أنّ داي الجزائر أراد أن يقدّم لزوّاره والسّفراء الذين تجمّعوا في قصره شيئا يستدعي الإبهار، فأراد أن يُعرف من إسمه أمام الأوروبيين بأن يبرز ذوقه الرفيع في اختيار الجمال، فطلب من نساء قصره تزيين خداوج وإخراجها للزوار، وبعد ساعات من العمل صارت «خداوج» مثل البدر في ليلة اكتماله، شهقت النّساء أمام هذا الجمال، فأرادت «خداوج» أن تتأكّد من مظهرها بنفسها، فنظرت في المرآة لتصاب بصدمة من فرط جمالها ما أدّى إلى إصابتها بالعمى، وصارت منذ ذلك الزمان تلقّب بـ «خداوج العمية.

 وبعد أن فشل الأطباء والحكماء في علاجها، وخوفا على مصيرها، قّرر والدها أن يهديها القصر الذي يقطنون فيه ضمانا لمستقبلها بعد موته.
تعودت خداوج على حياتها الجديدة وعاشت في القصر مع أبناء أختها عمر ونفيسة اللذان اعتنيا بها، الأمر الذي زادها حبا وتعلقا بالحياة، ليسمى بعد وفاتها بـ "دار خداوج العمياء".

التصميم العمراني والزخرفة المعتمدة في القصر، حكاية الزمان والمكان، تظهر اهتمام القدامى  الشديد بفن العمارة.


والقصر تصميم عمراني خاص بالعثمانيين، أسرت هندسته نابليون، فبعد دخول الغزاة الفرنسيين إلى الجزائر عام 1830 تمّ تعويض مُلاّكه بمال زهيد ليصبح مقرا لأول بلدية فرنسية بالجزائر العاصمة، لكن بالنظر إلى بهائه ورونقه لم يستطع ملك فرنسا آنذاك نابليون الثالث وزوجته كتمان عشقهما لهذا الصّرح، فاتّخذه نابليون مقاما له اعتبارا من سنة 1860، فكلّما حلّ بالجزائر العاصمة إلاّ وتوجه مباشرة إلى هذا القصر، ليقضي ملك فرنسا مدّة زيارته للجزائر في أحضان دار الأميرة الكفيفة، وليحوّل في سنة 1961 إلى متحف للفنون الشعبية، ليصبح بعدها في عام 1987 متحفا وطنيا للفنون والتّقاليد الشعبية يضمّ آلاف التّحف الفنية التّقليدية.

في مدخل القصر نجد ما يسمى بالزريبة وهي مكان تجمع فيه الدواب، لتليها الدريبة، فيها نجد حنفية للاغتسال قبل الدخول إلى السقيفة التي تحوي ممرا طويلا ذي سقف مقبب وسميك ينتهي على جوانبه بأقواس جدارية مجوفة ومحمولة على أعمدة رخامية، وعدد الأقواس من جهة اليسار أربعة، هي مفصولة بثلاثة أعمدة، يأخذ كل عمود شكلا حلزونيا، بينما نجد قوسين بالجهة اليمنى.

يتكون القصر من ثلاث طوابق مختلفة  التكوين،  حيث يفضي الطابق الأرضي الى درب أو زقاق صغير تحمل بصماته جداريات من الزخارف الرخامية، أما الطابقين الثاني والثالث فيحتويان مشربية السلطان وصفٍّ من الغرف  كانت في أيام عز السلاطين تستعمل للنوم والاستراحة، ومنها ما كان مخصصا للحمامات التركية .

الدخول إلى القصر دعوة ملحّة للسفر عبر الزمن 

وأنت  تتجول داخل القصر تشدك كثيرا تلك المقتنيات النادرة فيه، من تحف وأثاث وصور وحُليّ فضية عتيقة ونادرة، تعود لعدة حقب من الزمن، جمعها بعض المولعين بالتحف الفنية وجادوا بها على قصر خديجة أو المدللة خداوج، لما تحمله هذه الشخصية من محبّة وولع لكل من قرأ حكايتها وزار قصرها.




https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1057356004414463&id=345383252278412



ويبقى قصر خداوج العمياء معلما تاريخيا معبقا بسحر الماضي يجلب إليه كل من يعشق العمارة الإسلامية والزخارف الفنية العثمانية، ومتحف يفتح أبوابه لكل متذوقٍ للجمال.



Friday, 20 November 2020

قصر الباردو، تحفة معمارية تؤرخ لحياة عامرة بالهدوء والسكينة

   كلما دخلت قصرا من قصور الجزائر القديمة، كلما شدني المكان اليه، سحر البناء، الذي ينفرد به كل قصر، يجعلك مدهوشا مشبوبا بالذاكرة، تبحث عن كنه لما يحدث لك في تلك اللحظات المتقاربة بينها وبين الماضي!
القصور القديمة بحدائقها وفي صالاتها الواسعة وزليّجها المتفرد الصنع يمتزج عطره بأنفاسنا، لنصل إلى ذاك الزمن ونحن لم نبرح بعد مكاننا.
  قرّرت للحظة أن أسافر عبر هته القصور، وبدأت رحلتي وأنا أغمض عينيّ لأحلم أكثر بذلك الزمن، فصرح معماري كقصر الباردو لا يمكنك سوى أن تغمض عيّنيك، وتشرع نوافذ قلبك لتسافر عبر الزمن، وتدع خيالك يبحر دون قيود.
  للحظة ما وأنا أتجول هناك، تخيلت نفسي أنا محظية الأمير الحاج بن عمر، ولمَ لا؟ وقد وجدت في غرفتها كل ما أبحث عنه من راحة وسكينة وهدوء، لأكتب مذكراتي، وأدوّن أشعار الليل التي غالبا ما أنساها وأنا أعُدّ النجوم التي يتلاشى وهج بعضها تدريجيا كلما مرّ نيزك من هنا أو هناك.





  المتحف الوطني باردو في مدينة الجزائر، يقع في ضاحية الجزائر مصطفى باشا، بنيَ أواخر القرن الثامن عشر على يد ثري تونسي منفي في الجزائر "بن الحاج عمر"، ليكون بمثابة إقامة صيفية يستقبل فيها وجهاء المدينة.

سنة 1879 أضاف الفرنسي جوريت ملحقا بالقصر ليُستعمل كاسطبل، وحظيرة للحيوانات.

 في عام 1930، عندما تم افتتاح المبنى كمتحف لما قبل التاريخ والإثنوغرافيا في الذكري المئوية للاستعمار في الجزائر، ومتحف باردو يعرض تحفا إثنوغرافية، والتي تنصب على دراسة المظاهر المادية للنشاط الإنساني من عادات وتقاليد متنوعة، وهي موزعة حسب المواضيع والمواد المشكلة لها، الحضري والريفي والصحراوي، لتعيد تشكيل مشاهد الحياة اليومية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=2790723024363763&id=276903019079122

 في حين خُصِّص المُلحق لما قبل التاريخ. ومنذ ذلك الحين، دعي بمتحف باردو، ثم سمي بالمتحف الوطني باردو في عام 1985.
  يحتوي متحف الباردو عدة مجموعات من المقتنيات الهامة التي تعود لحضارات ما قبل التاريخ، تم جلبها ليس فقط من الجزائر ولكن أيضا من الخارج، من البلدان الإفريقية على وجه الخصوص.

  من بين المواقع في الجزائر التي جلبت منها هذه المقتنيات نجد: الطاسيلي والهقار، تغنيف في بسكرة، عين حنش في سطيف، المواقع العاترية في تبسة.


هذه المجموعات التي تتكون من مواد مختلفة كالمعادن ( الآلات الموسيقية )، الطين (الأواني الفخّارية )، الأصداف، الرسوم، الحجر والنقوش الصخرية.





كما أنّ الزائر للمتحف سيجد الهيكل العظمي لأميرة الصحراء ( الطوارق) تينهنان، مع كل المقنيات التي عثر عليها بالمدفن الذي دفنت فيه.

  المتحف  شأنه شأن جميع منازل جزائر بني مزغنة، يعبّر عن حضارة مغلقة أمام أعين المتطفلين من الخارج، السلالم مطلية بخزف أزرق، الدخول من باب ضخم ، ليتيح الوصول إلى باحة مزينة بحوض من الرخام، ونافورة بمياه نفاّثة.
 كما يمكن رؤية الديوان وهو صالون كبير كان صاحب البيت يقيم فيه الحفلات والمآدب، و الإجتماعات الهامة..



  كانت الجزائر قبلته الأولى، بعدما طُرد من قبل عائلته الحاكمة في تونس، ومنحه باي الجزائر في ذلك الوقت حق اللجوء السياسي، فاستقر بالعاصمة وشيد قصر "الباردو" الذي يعتبر من أجمل القصور في الجزائر.
  وتقول الروايات الواردة في شأن قصته أن سبب الطرد هو النزاع القائم على الحكم بين أفراد عائلته، وهو ما يفسر أصل كلمة "الباردو" التي تعبر عن استمرارية في الطراز الأندلسي المعروف في تونس في القرن 18 حيث يتواجد قصر الباردو المؤسس من قبل الحفصيين، وتعود تسمية "باردو" إلى الكلمة الإسبانية "البارادو" والتي تعني مكان مغطى بالورود.


  هذا المبنى الذي كان فيلا "فحص" في العهد العثماني في قلب الريف سابقا، والفحص يعني قصر يبنى خارج أسوار المدينة، والجزائر معروفة بقصور الفحص التي يستعملها أصحابها من البايات والطبقة البرجوازية لقضاء فصل الصيف والابتعاد عن مدينة القصبة مركز الدولة التي تحوي على الإدارة المركزية للحكم، حيث شيده الأمير "حاج بن عمار" على مساحة 1650 م2، وتتربع البناية على مساحة 1100 م2 وخصص مساحة 550 م2 لفناء القصر.
  ويقول المؤرخون إنه من بين القصور التي عاش أفرادها حياة الترف والرفاهية والسعادة، والمعروف عن الأمير "عمار" حبه الشديد لنسائه، وإعطائه الأولية للمرأة واحترامها، حيث خصص الأمير جناحا كاملا يطلق عليه "جناح المفضلات".
  

   الزائر للقصر يلمس الذوق الرفيع للأمير وتأثره بالطراز الأندلسي والعثماني على حد سواء، كما وظّف تشكيلة جميلة من الأجزاء الباعثة للحياة والصفاء، فنجد النافورة المهيأة في حوض ثماني الأضلاع، والتي تُرصع ساحة القصر، والحمام الذي كان يتردد عليه سكان القصر يومي الإثنين والخميس، كتقليد نصف أسبوعي للتبرك بهذين اليومين المباركين.

كما أننا نجد عدّة أركان في القصر، الماطبخ، والحمامات الواسعة، ركن الخياطة والتطريز، الحدائق والأفنية،  الساحة المزيّنة بحوض من الرخام، ونافورة مياه قبالة الديوان.

   في متحف الباردو نجد أن معظم الأبواب تمّت صناعتها بشكل صغير ومنخفض، ماعدا بعض الأبواب كالباب الرئيسي للقصر، والباب الذي يُطلّ على ساحة الديوان، وذلك لعدّة أسباب أهمها: 

  • من أجل الحُرمة.

  • من أجل الحماية من تقلّبات أحوال الطقس، فانخفاض الأبواب بهذا القدر الذي هي عليه في القصر، يبقي درجة الحرارة منخفظة دائما أيام الصيف، وتوفر دفئا كافيًا داخل الغرف في الأيام الباردة.

  • من أجل الإستعداد لمواجهة العدوّ، فانحناء العدو أثناء المداهمة وقت الحروب، يعطي الوقت الكافي من أجل مواجهته، والإنفلات من شرّه.

  • كما أن تذكير المرء بالتواضع لله عزّ وجلّ، سبب من الأسباب التي جعلت بناء الأبواب يتم بهذا الشكل.

     في قصر الباردو نجد أيضا ميزة أخرى تميّز أبوابه، وهي وجود النّح، وهو المِطرَق أو الجرس، وهناك نوعين من النّح، واحد كبير، والثاني أقلّ منه حجما بقليل، الأول صُمِّم خصّيصًا للرجال، والثاني للنساء والأطفال، فالقرع على الجرسين ( النّح )، يختلف صوته بين الكبير والأقل منه، وعلى أساسه يستعدّ الموجودون في الداخل لفتح الباب.

   النّح مصنوع من المعدن أو البرونز، وهو أداة مثبّتة بالأبواب تمكّن الزوار من اعلان حضورهم بالطرق على الباب بواسطة جزئها المتحرك مباشرة أو على جزء آخر من المِطرق.

   يمكن التّمعن في ثرائه الزخرفي، فمثل الحليّ يزيّن المِطرَق الباب بكل جمالية، وعلى العموم فإن المَطَارق مفيدة وزينة في آن واحد، فزخارفها العربية ونقوشها المذهلة جعلت منها ميداليات فريدة وخاصة بكلّ مسكن.

إن وضعها المزدوج على مختلف مستويات الباب يمكّن من استعمالها من طرف الزوار الراجلين والراكبين حصانا.

   هناك، مثل متداول في المجتمع الجزائري، نقول ( أضرب النّح )، ويقصد به غُضَّ الطرف عن أمر معيّن.

" العنصر الذي تجتمع من أجله فكرة الحُرمة".




   في متحف الباردو نجد الفوّارة قد صممت في وسط الدار بشكل له أبعاد مختلفة، فتواجدها وسط فناء الدار، يضفي جوا لطيفا داخل القصر، ولمسة جمالية متفرّدة تبعث على الحياة والإنتعاش لسكّان القصر.

أمّا أهم سبب في تواجدها هناك فيعود لكونها تساهم في حفظ الأسرار خلال الإجتماعات داخل الديوان.

فالصوت الذي تُصدره حركة الماء داخل النافورة، يعتبر عازلا فعّالا عن إنتقال أصوات المجتمعين ووصوله خارج  قاعة الإجتماع ( الديوان ).

   تتوسّط ساحة القصر شجرة القبرص أو شجرة السرو cyprès، أما بالنسبة للأعمدة والأسقفة ودواعم النوافذ والشرفات، فإن الخشب المصنوعة منه هو البلّوط المرّ، لأنه عازل جيّد للرطوبة ويعمّر طويلاً ( بسبب مرارته لا تدخله سوسة الخشب)، وهذا الخشب يجلب من مدينة آزفون بولاية تيزي وزو، وكلمة آزفون تعني العازفون أو المبدعون، وهذا مايفسّر أن أغلب العازفين على مختلف الآلات والفنانين من مدينة آزفون.

   وقد صمِّمت هذه الأعمدة والنوافذ والدعامات من الخشب أيضا من أجل الحماية من الزلازل، فكما هو معروف عن مدينة الجزائر أنّها مبنية على منطقة ذات نشاط زلزالي.

  في القصر نجد أهم جناح خاص بالأمير "الحاج بن عمر"، وهو جناح نسائه اللواتي كنّ يحضين بمكانة عظيمة عند الأمير، لذلك فقد قام بتخصيص غرفة سمّاها بغرفة المفضّلة، أو الغرفة المفضّلة وكلتا التسميتين صحيحة.

   فيذكر أنّ الحاج بن عمر كان يتّخذ من هذه الغرفة مكانا لعزلته، لأنّها تقع في موقع استراتيجي، فهي منعزلة تقريبا عن باقي أجنحة البيت، وبالتالي يجلس فيها ليتفرّد بخلوته ونشاطاته المنعزلة بعيدا عن الناس.

  وهي أيضا غرفة المفضّلة من نسائه في رواية أخرى.


https://www.instagram.com/p/B1CtOWkBkHW5Qt2hRJWwZ7btiM-epjikUEfwHo0/?igshid=73rfyqlc3x4y




   أما بالنسبة للزليّج، نجد أنه مختلف كليا عن بعضه البعض، الكثير من الألوان والأشكال والأنواع، يحتوي عليها القصربمختلف أجنحته وغرفه، ما يفسر التنّوع المعماري الذي تم بناء القصر به.

   حقًا يعتبر متحف الباردو من بين أجمل وأهم المعالم التاريخية والتحف الفنية المعمارية بالجزائر، يمزج بين الطابعين الأندلسي و العثماني، ويؤرخ لتاريخ طويل من الجمال والبساطة والعيش في كنف الهدوء والحياة البعيدة عن الفوضى والصخب. 



Tuesday, 10 November 2020

البرنوس للرجال كما النّساء، رمز الشهامة والبطولة والإستقرار

 البرنوس لباس الوقار التقليدي القديم ..حاكته الجدّات وتوراثه الأحفاد.



 
  البرنوس لباس تقليدي اشتهر قديما في أوساط الرجال، وهو عبارة عن معطف طويل او عباءة من الصوف أو وبر الجمال يضم غطاء مدببا الرأس، يكون مفتوحا من الأمام حتى منطقة الصدر اين تتم خياطته قليلا ليبدو مرتديه كأنه يملك جناحين.

وتشتهر به منطقة القبائل وتلمسان و مسعد بالجلفة، وقد اطلق ابن خلدون اسم اصحاب البرانس على البربر او الامازيغ، ويعرّف في كتابه ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر بلاد المغرب العربي بقوله: " حدود بلاد البربر تبتدئ حيث الرجال يرتدون البرنوس وتنتهي حيث الناس لا يأكلون الكسكسي".

والبرنوس أو أفرنوس عند القبائل وأعلاو عند الشاوية، لباس مقدس يوحي بعظمة ومقام من يلبسه، وعلى من يرتديه، أن يحترمه بعيدا عن أيّة رمزية دينية كانت.
المتأمل للبرنوس يجد أنه محاك بطريقة موحدة ومتساوية بدون تعقيدات، مايعكس ذلك النفوذ والعدل والحكمة السائدة في المجتمع الجزائري.

البحرينية بروين حبيب قالت: " عندما يسألك أحد: ما الحب ؟ فقط تأمل ما ترتدي من ملابس، ودقق في النسيج، لتعرف انه ليس سوى علاقات حب متواشجة ، ومتداخلة،ومتحدة متآلفة، متراكبة بعضها فوق أو جوار أو مقابل أو مع أو أمام بعض.."
هكذا يبدو المشهد للمتأمل جيدا للبرنوس، لأنه نسيج ممزوج متداخل من الحب والوقار، يلتف به الرجل الجزائري ويرتديه مانحا وجها آخر للشهامة والهيبة.


ولطالما ارتبط هذا اللباس بالمقاومة والإمامة جنبا الى جنب، وكان رمزا لهما ابّان الاستعمار الفرنسي، ثم تحول الى رمز للدولة بعد الاستقلال، وخير دليل على ذلك الأمير عبد القادر، الإمام عبد الحميد بن باديس اللذين يظهران دائما بالبرنوس، الشيخ البشير الابراهيمي والعربي التبسي، والرئيس هواري بومدين.


وقد كتب الروائي كفاح جرار رواية سماها  " اصحاب البرانس"، تحكي قصة عن أمازيغ بايعوا محمد صلى الله عليه وسلّم في بدايات الاسلام، وجرى بينهم الحديث المعروف ب " يا اهل المغرب".





تبدا صناعة البرنوس بمرحلة يجزّ فيها الصوف أو الوبر، ثم تغسل وتنقى وتجفف تحت أشعة الشمس، وتمشّط بالمشّاط، ثم تكشط بما يسمى القرداش، حتى تتفرق عناصر الصوف والوبر عن بعض، ولا تبقى كومة واحدة، ثم يأتي دور المغزل فيغزل الصوف او الوبر ليصبح خيوطا متساوية السمك ومن ثم تبدأ النسوة في نسج هذه الخيوط عبر المنسج اليدوي، وتستمر عملية النسج لشهور عدة تمتد من ثلاثة أشهر إلى تسعة أشهر، بحسب خفة يد المرأة التي تنسجه، وفي الاخير يُنقّى من الشوائب والزوائد ويخاط في منطقة الصدر أو ماتسمى ب "الصدارة " وهي عبارة عن شريط خاص يوضع في منطقة الصدر ويخاط ليضفي لمسة خاصة، ثم يغسل ويرتب البرنوس ليصبح جاهزا للبس.


ويعرف في اجتماع الوجهاء في منطقة القبائل، مايسمى ب " تاجماعت" او لجنة "حكماء القرية"، أنه من كان في هذا الاجتماع عليه أن يغطي رأسه بقلنسوة برنوسه، وبمجرد أن تسقط من على رأسه يتوقف عن الكلام، لان هذا يعني أنه قد تملكه الغضب ولا يستطيع مواصلة الحديث.


وكان الرجل الجزائري لا يستغني عن لبس برنوسه طوال السنة، ففي الشتاء هو درع واقي وجيد من قساوة البرد خصوصا في تلك الجبال التي تكسوها الثلوج، ولا يوجد أفضل من هذا الرداء الابيض القطني ليخفف من برد جبال جرجرة، فيغطي الرجل كامل جسمه بهذا الثوب الذي حاكته المرأة بكل حب وشغف لزوجها أو ابنها او اخيها، او باقي أقاربها.


أما خلال الصيف فلا مناص من هبوب رياح السيروكو أو الشهيلي الملتهبة الحارّة التي تلفح القرى والمداشر ، ما يجعل الرجل يضع برنوسه مطويا على اكتافه فيضفي ذلك على مظهره جمالية متفردة و يبدو أكثر أناقة، ويكون البرنوس  عازلا ممتازا لحرارة الجو.
ومن العادات الجميلة المتعلقة بالبرنوس ألاّ تخرج العروس الى بيت زوجها إلاّ ببرنوس والدها أو جدها أو برنوس أهل العريس،  وعند عتبة باب بيت عائلتها تدثّر به تفاؤلا بالخير والوقار والعفة والعزّ، ولا تزال هذه العادة تمارس الى غاية اليوم.


ونجد أن البرنوس حاضر في كل المناسبات كالختان والأعراس والأعياد وفي مناسبات التضامن والتكافل بين الناس كالوزيعة او " ثاوزيعث" وغيرها.


إنه شاهد من شواهد الموروث الثقافي للرجل الجزائري الأمازيغي الحرّ، في المقابل ترتدي النسوة ألبستهن التقليدية على حسب كل منطقة وتزينها بالحلي التقليدية التي تزيدها جمالا وأصالة.



ولا يمكن ان يجيء مولود حديث دون ان يحاك له برنوس يتباهى به مع اقرانه في قريته، كما ويصنع برنوس لكل طفل عند ختانه؛ ولا يهيئ  عريس جديد دون ان يحاك له برنوس جديد، يرتديه مطبقا قلنسوة البرنوس على رأسه حياء.

فيما يبدو ان البرنوس الحريري المطرز بالرموز البربرية قد أخذ مكان البرنوس القطني الأبيض التقليدي خاصة للعرائس، وهذا  لغلاء ثمن البرنوس التقليدي وندرته.


ومن المحزن ان نجد أن تقليد ارتداء البرنوس، قد تراجع كثيرا في وقتنا الحالي سواء في بلاد القبائل او منطقة الجنوب والهضاب العليا، لتبقى قلة قليلة ممن يتمسكون به يرتدونه بألوان مختلفة حسب المنطقة، فالابيض يصنع من الصوف الابيض للغنم، والبني والاسود يصنع من وبر الجمال والصوف الاسود أو البني للأغنام.


الشيوخ اكثر تمسكا بهذا التقليد، وبعض الشباب ممن يحاولون الحفاظ على هذا الموروث، خاصة وان البرنوس افضل لباس يقي من قساوة الثلوج، أين تنخفض  درجة الحرارة إلى أقل من الصفر بكثير.


في عام الفين واربعة عشر، انطلق المهرجان الأول للبرنوس بالجزائر، وكانت قرية حورة ببلدية بوزقن بولاية تيزي وزو، بتنظيم من الجمعية الثقافية " يعقوبي فرحات"، بالتعاون مع مديرية الثقافة للولاية، تتواصل هذه الاحتفالية لغاية اليوم، فقد شهد شهر أوت المنصرم الاحتفال بتظاهرة البرنوس للعام الخامس على التوالي، حيث  تعتبر هذه التظاهرة فرصة جميلة للتعريف بهذا الموروث الحرفي الثقافي، الذي يعبّر بكل صدق عن أصالة المجتمع الجزائري الأمازيغي، ومدى تنوعها تراثا وحرفة.


https://pin.it/2GCCHBv

وعن الموضوع تحدثنا مع الصحفّي والإعلاميّ صلاح الدين الأخضري، وصرّح لنا قائلا: "يهمني شخصيا أن يصنف البرنس لدى اليونسكو كميزة لأهل المغرب، وأردف قائلا:" سأعمل على ذلك، وسأسعى جاهدا من جهتي حتى يتبوأ هذا الموروث اللامادي مكانة بين باقي الموروثات. الثقافية في العالم ككل".


وعبّر لنا بعض من التقيناهم وسألناهم عن البرنوس، أنه موروث يساوي ثروة، كما تقول الحاجّة مريم، فيما أخبرتنا الخالة فاطمة أنه رمز "الستر"، أمّا عمي محمد فقد قال بأنٌه نعمة للابسه، وفخر لمن يحتفظ به ويقول أنه لطالما تهندم به بمناسبة أو بغيرها.


ومن الجيل الجديد تقول فلّة أنّ رؤيتها لوالدها وهو يتوشح بجناحي برنوسه تمنحها شعورا بالحماية والقوة التي يتركها منظر إرتداء والدها للبرنوس.


 


Friday, 18 September 2020

الجوائز الأدبية، أسماء كثيرة،كتاب ونصوص متنوعة، وجدل لا ينتهي!




إن الإبداع مجال للاختلاف والتميز، والجوائز الأديبة باتت في وطننا العربي صراعا من أجل الوصول الى النجومية، ففي غضون السنوات الثلاثة الاخيرة تمكنت بعض الجوائز من تصدير أسماء للرواية في الوطن العربي، وأصبحت الى وقت ما قيمة مضافة ترفع من شأن الحاصل عليها، او تحييده من تكرار التجربة.

غير أن اللغط الكبير الذي أثير في الآونة الاخيرة في الأوساط العربية حول طبيعة الجوائز وطريقة التتويج، فتحت باب السجال على مصراعيه أمام الكثيرين.


 الجوائز الأدبية تحتل شهرة عالمية واسعة، فمن التقاليد التي عرفت بها الأوساط الثقافية محليا أو خارجيا التحضير للجوائز الأدبية والذي يكون ناشطا على مدار العام.

 المهتمين بالأدب والإنتاج الثقافي بتنوعه يتتبعون أخبار الجوائز بشكل دوري، نوبل للآداب التي تمنح منذ سنة 1901 بصفة سنوية مازالت لحد الآن من أشهر الجوائز العالمية والأكثر متابعة نقديا وثقافيا، كما نجد جوائز مرموقة كجائزة غونكور le prix Goncourt التي تهتم بمجالات مختلفة كالرواية والقصة القصيرة، الشعر والسيرة الذاتية، والتي بدورها نجدها تُمنح منذ سنة 1903، جائزة فيميناFemina 1904 لها وزنها أيضا، وبالحديث عن الجوائز الأدبية المحترمة لا يمكن أن ننسى جائزة البوكر Booker البريطانية.

أما في العالم العربي والجزائر على وجه الخصوص نجد الكثير من الجوائز على غرار جائزة كاتب ياسين ، علي معاشي، الطاهر وطار،جائزة آسيا جبار الأخيرة وجوائز أخرى مازالت لغاية اليوم تحافظ على خطها ومصداقيتها في حين هناك جوائز أخرى اندثرت وهمشت وحتى التي فقدت مصداقيتها بسبب نقاط حساسة لم ينتبه لها القائمون على رأسها، لتكسب روح الأصلية والمصداقية فيها!

 كما أن الجزائر كما يعرف معظم العاملين في الوسط الثقافي تعد من البلدان السبّاقة إلى تأسيس الجوائز الأدبية، غير أن الحماس لجائزة ما حالما ينطفئ في بداياته، وتنطفئ معه الكثير من الفرص التي تجعل من بلدنا بلد الفرص الضائعة كما وصفته الكاتبة ربيعة جلطي يوما.

ما حدث لجائزة الآداب الكبرى التي أطلقها اتحاد الكتاب الجزائريين برئاسة الروائي مولود معمري بعد الاستقلال بسنتين، لتختفي الجائزة بعدها من الوجود لمجرد ظهور أسباب سياسية هزت الحياة السياسية في الجزائر آنذاك. وبعدها جائزة رئيس الجمهورية للكتاب الشباب "علي معاشي" التي احتفت بها وسائل الإعلام والصحافة بشكل مثير للإعجاب، ما يحصل مؤخرا حول جائزة البوكر،وغيرها من السجالات، يجعلنا نطرح تساؤلات عن الوضع العام للجوائز في بلادنا وفي العالم العربي عامة.

لماذا يهاجم بعض المتتبعين والمهتمين بمجال الجوائز بعض الكتاب والنصوص المشاركة؟

الكثير من التساؤلات التي تثار في كل مرة حول العملية التتويجية للكتاب ونصوصهم وأعمالهم الأدبية، فالكثير من الملاحظين اعتبروا الجوائز الأديبة تدخلا سياسيا في الفعل الكتابي لتحفيز العقل الإبداعي، في حين ذهب فريق آخر لاعتبارها فعل هيمنة على الكاتب، ليبقى أصل الجائزة حدثا ثقافيا تفاعليا بين المبدعين والمنظمين للجائزة وبين الناقدين والقراء والمهتمين بالنصوص على تنوعها وعلى اختلاف تقييماتها وتصنيفاتها.

يشكك البعض في مصداقية لجان التحكيم، كما يتم مهاجمة النصوص، وشخص الكاتب الفائز، ومهاجمة بلد الفائز واتهامه بالشراء "السياسي" للجائزة. 


في أحد منشوراته تعقيبا على الحملات الشرسة ومنشورات السخط والتهكم والسخرية والانتقاد اللاذع بعد إعلان مجموعة من روايات بعض الكتاب على غرار "رواية حطب سراييفو" للكاتب سعيد خطيبي، في قوائم جوائز أدبية، كتب الروائي سمير قسيمي قائلا:


"أحيانا أشعر أن مرض الجهوية لا يقتصر على الإدارة والسياسيين الجزائريين، بل أيضا على المثقفين والكتاب. حين تقرأ رواية يا صديقي، انس قرية ومدينة صاحبها، لا تخبرني انها جيدة، لان كاتبها من عشيرتك يا احمق."

مما يلاحظ  أن سبب اللغط القائم،اعتبار الكثير من النقاد والقراء والمتابعين أن النصوص الفائزة نفتقد الى درجة معينة من القيم الفنية، او حتى انها لا تستحق أن تتوّج من الأساس.


https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=384743219586046&id=100041511121408


الجوائز الأدبية في العالم العربي، بين المصداقية والخروج عن تقاليد الممارسة الصحيحة والصادقة للجوائز الأدبية في العالم


 يذكر ناجي أمين بن باطة الفائز بجائزة الجزائر تقرأ العام الماضي، عن روايته أوفردايف أن المبدع يميل إلى العمل أكثر، وتقديم الأفضل، عندما يتم تكريمه ودعمه ماديا ومعنويا، هذا الدعم الذي قد يكون بعدة صيغ لعل أشهرها هي المسابقات والجوائز الأدبية. 


 ويضيف انه مما لا شك فيه أن تعدد الجوائز الأدبية خاصة في الآونة الأخيرة هي مكسب ثقافي للوطن، حيث عكست هذه المسابقات حجم الإقبال الكبير للجزائريين على عالم القراءة والكتابة، واهتمامهم بها بعد سنين عجاف طوال في المجال الثقافي بصفة عامة!


 غير أنه لا بد من التنويه أن الكثير من الجهات المنظمة للعديد من الجوائز لم تتمكن من تسديد مستحقات الناجحين في تلك المسابقات، فلم تلتزم بالمدة الزمنية المحددة لتكريم الفائزين، مما أثر سلبا على سمعتها عند الكثير من النقاد و المتابعين، في حين أنها كانت قادرة على تفادي هذا الإحراج بسهولة، وهو الأمر الذي يستحق القليل من التنظيم والإنضباط والعقلانية في توصيف الأمور وتنظيمها.

 

 ويعقب بن باطة عن الجدل القائم بقوله: "لكن الأمر الملفت للانتباه هو ردود الأفعال السلبية الجارحة لبعض المحسوبين على القطاع الثقافي، وهذا لا يليق بمقامهم، إذ أن الكل معرض لأخطاء تنظيمية تلك التي عانت منها الإدارات القائمة على الجوائز، والتجريح الذي طالها من طرف هؤلاء لا مبرر له ولا فائدة منه."

 "علينا أن نتعلم الوفاء بوعودنا والإلتزام بكلمتنا من جهة، والتماس الأعذار للآخرين وتجنب التجريح من جهة أخرى، وإلا فلا مكان لنا مع عظماء المجال الثقافي حول العالم." يضيف بن باطة.


في حين تذهب الكاتبة والناقدة الأدبية منى صريفق الحائزة على جائزة كتارا  في النقد سنة 2019 الى القول بأن الأمر أصبح يميل شيئا فشيئا لنوع من الاختيارات غير المضبوطة، أو نوع من  الارتجالية، وإهمال عنيف للنقد وأهميته في جعل النصوص تستحق تتويجها كنصوص يحفل بها القارئ المهتم. 

تقول: "كنت غالبا ما أجد نفسي أطرح السؤال الآتي بعد كل ما أراه من هذه الممارسات الثقافية غير المرضية: هل يجب أن يتوج العمل الأدبي، او الإبداعي مهما كانت الظروف؟ هل فكرة عدم تتويج أي نص فكرة مبتذلة لهذه الدرجة لكي لا يتوج أي نص؟ في نظري أن تعترف اللّجان القائمة على الجوائز الأدبية بصفة خاصة - والأمر لا ينحصر مثلا على جائزة "علي معاشي" بل على كل الجوائز الأدبية في الجزائر- أنٔ كل المتنافسين في دورة في ذاتها غير مؤهلين للفوز بالجائزة، عوض إعطاء الجائزة لعمل لا يرقى نقديا لأن يكون حاملا لإسم الجائزة. 

وتضيف ضاحكة أتذكر في هذا السياق مثالا طريفا جرى بيني وبين صديقة نتحدث فيه عن الموضة، وعن كل ما فيها وما عليها "ماديا وجماليا" فبادرني سؤال، كيف لماركة مشهورة أن تبيع كل مستلزماتها بسعر يفوق الخيال لسبب واحد؛ هو أصالتها وقيمة سنوات تأسيسها! وكيف بجائزة أدبية مرموقة كبيرة تتعامل مع كتاب مرهفي الحس أو حتى كتاب آخرين يريدون نقدا لأعمالهم، ونظرة خالية من أي ملابسات أو مجاملات أو محاباة، أن تقدم اسمها لأي كان؟! ولا أعني أيا كان أنه إنقاص من قيمة المشاركين، بل المنافسة هي التي تجعل من فكرة العمل والتميز وإثبات الوجود وافتكاك شرعية محلية أمرا بالغ الخطورة وليس بالسهولة التي نراها في الجوائز الأدبية في الجزائر. ولم يتوقف الأمر في الساحة الثقافية في الجزائر على قهر المتنافسين أو حتى تهميشهم باختفاء أسماء الجوائز الأدبية، بل وصل الأمر إلى فضائح على العلن، كأن يتوج كاتب بجائزة، وفجأة يجد نفسه ينتظر دون جدوى إذ أن كل مستحقاته المتعلقة بالجائزة التي تنافس فيها نصه لم تصله بعد.

الكاتب أحمد عبد الكريم الذي توج بجائزة أدبية استحدثت مؤخرا عن دار نشر الجزائر تقرأ، بكل وزنه وثقله الأدبين، أرّقه ما يحصل من لغط، وما يفعله القائمون على رأس الجائزة، فينشر على مواقع التواصل الإجتماعية ما يعبّر به عن رفضه لممارسات الجائزة الأدبية التي أخلفت بوعودها التي قطعتها مع كل المتابعين للحركة الثقافية في الجزائر وليس معه فقط!

 كل الحقوق التي تُمنح للكاتب والتي تعبر عن مصداقية الجائزة وقوتها ومدى ممارستها لطابع الثقافة والبعد عن السياسة العمومية التي تقيد من حريتها تجدها بكل وضوح ترفض الامتثال لحقيقة كونها توجت كاتبا باسمها على أن نصّه خاض المنافسة، وبشهادة لجنة قراءة، من نقاد لا يستهان بهم كما ينوهون دائما. لتصل الأمور إلى هذه الحالة الشنيعة من الصمت المطبق، والبعد الذي لا يطاق عن تقديم أي استفسار أو توضيح يحفظ ماء وجه الجائزة الأدبية ولجنة القراءة والناقدة لكل الأعمال المشتركة!؟

جدل واسع ومستمر وصل حد عزوف الكثيرين عن المشاركة بنصوصهم، أو كأعضاء في لجنة التحكيم بسبب ما يحدث

     وإن كانت هذه الجوائز تعدت نطاق المحلية وأصبحت عالمية فإن هذا الأمر له أسبابه وتبعاته كذلك؛ باختلاف جغرافية الجائزة وحتى الهيئة التي تسهر على تقديمها للنخب المثقفة على أساس أنها عنصر فاعل في حركة ونشاط الحركة الثقافية في أي بلد كان.

   تتوالى الأسئلة عليّ تضيف "منى صريفق" من كل حدب وصوب: أين تكمن المصداقية فعلا؟!  في قراءة العمل الأدبي/ الإبداعي ثم تتويجه؟ أم تكمن في الهيئات المؤسسة للجائزة في حد ذاتها؟ هل فعلا هذا المستوى يليق بالجزائر كحاضرة ثقافية بها تعدد جغرافي مهول؟ يمنحنا التعدد والتنوع ما يمكن أن يعيش به عالم بأسره، أم أن فكرة استسهال الأدب والفن والجماليات المطلقة المتعلقة به، جعلت من هذه الجوائز أوكارا، بدل أن تكون ساحات واسعة للمنافسة الشريفة، التي تضمن للكاتب حقه ورمزيته المثقلة بالاحترام لكل ما يريد الإجابة عنه في عمله الأدبي والإبداعي؟

 جدلية قاتلة هي هذه الأوضاع التي نراها أمامنا على صفحات الفيسبوك وعلى صفحات الجرائد. أعتقد 'تضيف منى' أن فكرة احترام الأدب لا تنبع إلا من شخص يعرف تماما قيمته، ويعرف تماما ما يعني أنه يوجد كاتب يكتب من أجل حياة الآخرين. ولن يتحقق في الجزائر شيء اسمه جائزة أدبية مرموقة أصيلة إلا إذا كان هذا الاعتقاد راسخا فيها، فقيمة الأدب وقيمة الكاتب تمنحان الجائزة فخرا واستمرارية كما تمنح الجائزة شرعية يقتنصها الكاتب بكل قوة وثقة في أن عمله بالفعل قد تميز بين آلاف النصوص "بنية وجمالية وتأويلا للماضي والحاضر والمستقبل وفق توليفة يصنعها هو ضمن تجربته الخاصة من دون اعتبارات أو سياسات أو محاباة، مهما بلغت درجة قربه شخصيا من المحكمين أو قرب دار النشر بالجائزة المشارك فيها.

وفيما يتعلق بنتائج الجوائز التي تعرض عبر منصات أدبية مختلفة، تقول صريفق انها تتبعت مؤخرا نتائج العديد من الجوائز الأدبية على المستوى العربي، وكانت تحديدا متحفظة بشكل كامل عن الخوض في أي نقاش حولها،  لحين كونت فكرة عن الجائزة في حد ذاتها وعن هيئاتها المؤسسة وعن اللجان التي تتخيّرها هذه الجوائز الأدبية التي اكتسبت قيمة لا يستهان بها.

 و لأكون أكثر دقة تضيف منى صريفق، أردت معرفة طريقة تفكير غالبية المتتبعين لها من الجزائر،القراء والمثقفين والدارسين والمشاركين فيها. ووجدت أن نصوصا تظهر من العدم لمجرد ذكر أسمائهم في القوائم القصيرة والطويلة لهذه الجوائز! فينكب الدارسون عليها بشكل غريب، دراسة، ونشرا لآراء تقييمية، تنعدم فيها في مرات عدة مقاييس القراءة المحكمة، معرفة بأصل وجنس العمل الأدبي وانتهاء بطريقة كتابة الكاتب المشارك في هذه الجائزة. وتأكدت أن أغلبية المتتبعين للجوائز يناصرون الكتاب فقط لأنهم ينتمون إلى البلد ذاته، والثقافة ذاتها، و لأكون أكثر دقة المقاطعة ذاتها. متناسيين أن هذه المسابقات الأدبية المشهورة لها خلفية إعلامية قوية داخل الوطن العربي، ومصداقية لن أشكك فيها، ولكن أبدا لن أناقض اعتقادي في أن المدرسة الجمالية لحكام هذه الجوائز قد تختلف حتما من بلد لآخر، ومن طبيعة تفكير لأخرى. وأن تتويج نص على آخر لا يعني بتاتا أن نصوصا أخرى مشاركة فيها قد فشلت في تحقيق مبتغاها من الكتابة في حد ذاتها. ومن بين هذه الجوائز "الجائزة العالمية للرواية العربية" التي يطلق عليها جائزة البوكر العربية، والتي أفرحت الكثير من المتتبعين للثقافة والأدب في الجزائر بوصول أسماء جزائرية لقائمتيها الطويلة والقصيرة. 

لن أنكر فخري بوجود أسماء جزائرية، ولكن لكل متتبع طريقة معينة في فهم وتحليل الأمور، وأنا لي طريقتي الخاصة في رؤية الأمور بخاصة ما يتعلق بالنصوص الأدبية، وقد أتبنى في هذا المسلك رؤية تفكيكية دقيقة، مفادها أنني لا أقرأ لكل اسم تم نشر اسمه في قائمة من القوائم، بل أنا أقرأ لكل اسم في وقته وحيّزه المناسب، بعيدا عن بهرجات الإعلام، وعقلية الريفيوهات reviews الفيسبوكية المجاملة والمحابية لكل إسم تم ظهوره. حتى وإن كان الأمر يتطلب وجود ناقد يساير الموجة بكل حيثياتها. ولن نبتعد كثيرا عن هذه الجدلية التي رأيت ذاتها في جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، التي تم فيها تتويج أسماء مغربية لتبدأ معركة اللجان التي تقرأ الأعمال مع تنمر المتابعين من مختلف الربوع في كون الفائزين كلهم من بلد واحد ينتمي إليه الناقد الأساسي في لجنة التحكيم ، كل هذه التعليقات وكل هذا الكم الهائل من عدم التبصر في حقيقة الجائزة الأدبية يجعل من موقف الكاتب الذي يخوض حربا ضد اسم الجائزة -على قيمتها ورمزيتها - يقع من مزلق بالغ الخطورة، فهو يظهر جليا فكرة طمعه في الجائزة المالية بشكل ينقص كثيرا من هيبته ورمزيته ككاتب يحاول الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر المادية فداحة في حياته. توجد جوائز لا تعطي القيمة الحقيقية للكاتب، كما يوجد كاتب لا يعطي القيمة الحقيقة لما يكتب فتجده يسرع لاقتناص الجائزة بسبب عائدها المالي فحسب! وبين لجان محابية وجوائز تحدد أهدافها ومخططاتها القيّمة، وأخرى تهمل كل ما سبق ذكره من أهداف ومخططات، وكتاب يظلمون وآخرون يثورون ضد قرارات اللجان، نجد المتتبع لصفحات الثقافة تائها، وغير قادر على اختيار طرف رشيد يكمل معه مسيرة المعرفة الثقافية داخل الجزائر وخارجها.

بالعودة إلى ذات النقطة وهي مصداقية الجائزة ومحايدة لجان التحكيم، جوائز كالبوكر، وكتارا، الطيب صالح، الشارقة والعويس، و مؤخرا جائزة الجزائر تقرأ، باتت محل تشكيك لدى الكثير من النقاد ممن ترأسوا لجان تحكيم أو شاركوا كأعضاء، ما يجعل هناك آراء متباينة حول فوز كاتب على حساب آخر! وكثُر التساؤل عمّا إذا كان المنتج أو النص يستحق فعلا، وماذا عمّن استبعد او غييّب؟!

أهمية الجائزة تكمن في مصداقيتها وقوة لجنتها التحكيمية 

الأمر تخطى الحدود الحمراء، بل ووصل  إلى حد خسارة العديد من الجوائز لمصداقيتها، وإلى أبعد من ذلك، على خلفية الكثير من الفضائح المتعلقة بتهميش النصوص، وعدم قراءتها على حد قول الكثيرين، واستبعاد أسماء أدبية لها وزنها، وقيمتها الأديبة التي كانت سبّابقة في تناول مواضيع معظمها لم يسبقها إليها أحد، وعلى مدار أكثر من عشرين سنة من العطاء، والإنتاج الأدبي العزيز.

  ففي اتصال مطول ومتابعة لها زمنا ليس بالقصير، تواصلنا مع الكاتبة السورية لينا هويان الحسن، التي شاركت بالعديد من أعمالها في مسابقات عديدة وتوجت معظمها على مدار سنوات، تضيف في هذا الموضوع الذي أرّقها وقالت عنه إنها استهلكته، وهذا على خلفية قضيتها حول نصفها الاخير "ليست رصاصة تلك التي قالت بيلا" والتشابهات المريبة بينها وبين نص خالد خليفة عن نصه " لم يصدق عليهم احد" الذي شاركا بهما في جائزة البوكر لهذه السنة، بأن الجنة لم تقم بعملها كما ينبغي، كتبت منشورا عبر صفحتها على فيس بوك، ونشرت رأيها بوضوح في عدة حوارات لها، ومقابلات مع العديد من الجرائد العربية والمجلات قائلة: "المسألة باختصار أنني قررت عدم التعاون بحقيقة أن التشابهات والتقاطعات بين العملية تتجاوز حكما توارد الافكار، وعندما أثرت القضية كنت قد استشرت اكثر من ناقد له خبرة، وكذلك محامية مختصة بحقوق الملكية الفكرية، نشرت التفاصيل بوضوح ونقاط محددة لا تقبل الجدال على صفحتي بموقع فيسبوك، رغم معرفة أني سأخوض معركتي بيتك حقيقي، فالوسط الثقافي غالبا ما يفتقد للشجعان، بل أكثر من ذلك فالشلليات الأخطبوطية ولدت الشجاعة من قلوب قوم الثقافة! "

 وفي منشورا لها أيضا طرحت نقاط مهمة جاء فيها: "مساءلة للجنة تحكيم جائزة البوكر 2020 إذا حضراتكم قرأتم العملين باستعجال مثلا، ولم تلاحظوا التقاطعات ولا الأسلوبين شبه المتطابقين، ولا الفترة الزمنية ولا الأمكنة فهذه مصيبة وإذا قرأتم وانتبهتم و " طنشتم" وفقا لحسابات ماوراء الكواليس لا نعلمها فالمصيبة أعظم.

أتمنى أن تأتي الآراء النقدية من ضمائر نظيفة من التواطؤات، والتحيزات، مرّة واحدة فليثبت النقد روحا نظيفة وسليمة دون حسد واستذئاب."

وتضيف : "كما ترون أعلم منذ البداية اني البطلة الوحيدة في هذا القفز اليباب الذي أسميه وسط ثقافي. قطعا لن أرشح أعمالي في المستقبل لجائزة البوكر، في العام الماضي كنت في لجنة تحكيم الجزائر تقرأ، كرست وقتي لقراءة النصوص المرسلة لي، بل أكثر من ذلك كتبت تقرير يسلط الضوء على موضوع كل رواية، بالإضافة إلى التقييم، والكاتبة الجزائرية  هاجر قويدري التي تكبدت عناء ادارة مجموعة المحكمين تشهد لي بذلك، إذن من يكون محكّـما في لجنة يفترض أن يقرأ، والشيء الأكيد أن روايتي لم تقرأ من قبل لجنة تحكيم جائزة البوكر 2020، ساكتفي بهذا القدر من التعليق حول الموضوع، وقد ذكرت سابقا أنني لجأت الى المحكمة و سأحصل على حقي عبر القضاء." 




جوائز أدبية كثيرة ومختلفة، وجدل واسع حول أحقيتها واستحقاقها، بين الكتاب والقراء والنقاد.


القاص والشاعر العراقي عبد الهادي سعدون، في إحدى تصريحاتها لجريدة عربية، قال أن: " التشكيك بالجوائز وأهميتها من عدمه متداول في كل بلدان العالم، كما أنّ كثرتها تَتبع طبيعة هذا النوع الأدبي من غيره. الصحيح في هذا البحر من التلميحات والموافقات أو الرفض للجوائز هو الحرص على تشجيع الجوائز الحقيقية، ليس لقيمتها المادية بقدر قيمتها الفكرية والإبداعية."


ومن وجهة نظر الناقدة والمترجمة الفلسطينية أماني أبو رحمة فإن الجوائز الأدبية تعددت بشكل يثير التساؤلات فعلا حول الجوائز والقائمين عليها، ومن ينالها أيضاً.

وتبيّن أبو رحمة على الصعيد ذاته " أنه لم يترافق هذا الكم من الجوائز والمهرجانات بنهضة أدبية وفنية وبحثية أصيلة وجادة، لا في دول الخليج ولا في باقي الدول العربية ، بل رافقت الفضائح أغلب هذه الجوائز وكثير من الفائزين بها ومعظم أعمالهم.

 والناتج، بحوث مادة مكررة ،و مسروقة في أحايين أخرى، وأعمال لا ترقى للمستوى الأدبي المحترم،  ولجان تحكيم غير ذات صلة، تُعطي تقييمات انطباعية لا تُقنِع أحدًا حتى المتقدمين للجائزة، ويستمر السجال طويلا قبل الجائزة وبعدها، عن كواليسها وأهلية أعضاء لجانها، وأهمية العمل وظروف الفوز مما يفقدها الكثير من المصداقية، الأمر الذي وصل إلى أن بتنا نسمع مثلا إن جائزة ما ذهبت العام الماضي إلى مواطن ذلك البلد، وعليه فإن الفائز لهذا العالم لن يكون منه. حتى بات المراقب يستنتج الفائز بالجائزة قبل إعلان نتائجها استنادًا إلى معايير لا علاقة لها بالنص الإبداعي أو النقدي".

وتقدم أبو رحمة تساؤلات عدّة، منها: هل هذه موضوعية؟ ما علاقة الجنسية أو غيرها من الصفات أو العلاقات الشخصية والعامة بالإبداع؟

ليبقى هذا اللغط قائما، مادامت الجهات القائمة بعيدة عن المعنى الحقيقي لِاستحقاق ومنح الجائزة، الذي يجدر به نيلها، مالم تدخّل أي حسابات أخرى في قائمة شروط منحها للجائزة، وبعيدا عن المسائل الشخصية أو محاباة أطراف أخرى، حتى نرقى بالعمل الثقافي ونوصل جوائزنا العربية إلى مصاف  الجوائز الثقيلة والمحترمة، التي تقدر فيها الدول و تحترم كُتّابها ومُبدعِيها، بعيدا عن الحيّز الجغرافي الضيّق الذي ينتمون إليه أو الحسابات السياسية، والعرقية، والاِنتماءات المُشينَة التي ينسُبُونها للديّن والهوية، وعن الذرائع الواهية المتعلقة بالاستشهاد بالبحوث العلمية والشواهد التاريخية، واعتبارها سرقات، فقط من أجل أن يستبعد نص ويتقدم آخر. 


الرشتة، عجينتها ومريقتها، طبق جزائري تحتفظ بخصوصيتها وأسرار طبخها وتقديمها

  تتعدد تقاليد الأكل الشعبي في البلدان عبر العالم، وهذا بحسب التموقع الجغرافي والتمازج السوسيولوجي والأنتروبولوجي، مما يدخل في مكونات الطعام...