بسم الله بديت وعلى النبي صليت،وعلى الصحابة رضيت، ومع حبابي هاد البوقالة نويت، يا ربي أعطينا الفال، ولاقينا بولاد الحلال.
هكذا تبدأ النسوة سهراتها الرمضانية وهي تجتمع على سطح البيوت المتراصة، في منزل إحداهن ، أو في وسط الدار وعلى ضوء القمر، في دويرات القصبة العتيقة بالعاصمة الجزائر مرورا بالمدن القريبة كشرشال، والقليعة وصولا إلى تلمسان بالساحل الغربي لتنتشر بعدها في وقتنا الحالي إلى أغلب المناطقالجزائرية، وحتى إلى البلدان المجاورة ليبيا تونس والمغرب.
بعد أن يخرج الرجال والأطفال إلى الجوامع لصلاة التراويح، أو إلى المقاهي والحومات "الحارات" ليتسلو بألعاب الشطرنج والنرد وشرب الشاي أو القهوة، تتسامر النسوة إلى ساعات الفجر الفجر الأولى حين تهدأ المدينة.
البوقالة التسلية الوحيدة التي كانت تعقد البنات العازبات آمالهن ونياتهن مع أطراف أثوابهن، علّها تصعد إلى السماء مع دخان البخور والجاوي الذي يُحرق على الكانون أو النافخ، وتتحقق مع خيوط الفجر الأولى، لتجد حديث النسوة في اليوم الموالي حول فتاة أفرحها فأل البوقالة ليلة البارحة، وأخرى أحزنتها وكدّرت أبياتها صفوها!
حقيقة التسمية وأصلها
لا يختلف اثنان على أنّ البوقالة هي موروث شفاهي شعبي جزائري ضارب في القدم، تمارسه النساء الجزائريات في المناسبات و الأعراس والسهرات الرماضانية، رغم أن المؤرخين قد تباينت تحليلاتهم وتفسيراتهم في أصل البوقالة وتاريخها.
فبين من يرجع أصولها إلى الأتراك مع مجيء العثمانيين إلى الجزائر، وبين من يقول أن البوقالة تشبه طقوس سحر لجماعات أورثوذوكسية، ومن يقول أن أصلها فينيقي، وصولا إلى عهد الفينيقيين بمدينة تيبازة و شرشال على وجه التحديد.
إلا أنه يتفق الجميع أن البوقالة في المخيال الجمعي لم تُختر إلاّ لتكون لسانا يُترجم به ماتجود به الذاكرة الجماعية من حفظ لتراث الموشّحات الأندلسية والشعر الشعبي.
وتشير بعض الروايات إلى أن اللوحة المشهورة للتشكيلي الفرنسي أوجين دولاكروا(1798 ـ 1863) التي أبدع فيها في العام 1834 بعنوان « نساء الجزائر في مخدعهن» وأعاد صياغتها بتفاصيل أكثر دقه عام 1849 استنبطها من حضوره جلسة «بوقالة» في إحدى ليالي رمضان بحي القصبة العتيق في العاصمة الجزائري، ويبقى هذا بطبيعة الحال بحاجة على تأكيد وتدقيق.
أعقد وأنوي..هكذا تبدأ طقوس اللعب
عند البدء في طقوس البوقالة، قد يظهر للبعض أنها مستوحات من طقوس قديمة كلوح الروح او ما يعرف بلوح الويجا، أو حتى بعض التشبيه بالعرافة عن طريق الماء او ما يسمى "بالهيدرومنسيا"، ويرجع الكارهون البوقالة رأيهم إلى بعض البوقالات التي تحتوي عبارات من أمثلة استحضار الجن كما نجد في هذه البوقالة: "هبطت لقاع البحر،فرّشت زربية، خرجت لي جنية، قالت لي واش بيك يا بنية؟ قلت لها راحوا حبابي وخلاوني وحدانية"، أو استهجانهم لبعض الكلمات التي ترددها العارفة في بداية اللعبة مثل: "بخرتك بالجاوي جيبلنا الخبر من القهاوي، بخرتلك بالحنة جيبلنا الخبر من مزغنة، بخرتلك بالزيت جيبلنا الخبر من كل بيت”وينعتها البعض ببعدها عن العرف وتعاليم الدين ، "يما يما ديريلي تويقة في وسط الحديقة باش نشوف زهري كي تجيبو ذيك الوريقة"، أو فيما يتعلق بالعقد وهو عقد أطراف الثياب، استنادا للآية الكريمة: ومن شرّ النفّاثات في العقد"، والتطير بالفأل إن استعصى فتح العقدة فيما بعد.
غير أنّ هذا بعيد كل البعد عن ممارسة لعبة البوقالة كما يؤكد ذلك أكثر باحث في تاريخ البوقالة "قدور المحمصاجي" الذي كتب كتابا باللغة الفرنسية سنة 1989 سماه :" لعبة البوقالة.. مساهمة في معرفة أحسن لهذه التسلية التربوية والشعبي"، كما أنّه قدّم العديد من الحصص الإذاعية والتلفزيونية، تناول فيها موضوع البوقالة، كموروث سوسيولوجي يحاكي عادات النساء في القديم، حتى وإن تضمنت الكلمات التي ذكرناها سابقا، فهي إنما تعاز على جهل العوام ليس إلاّ.
وتؤكده أيضا التعابير التي نبدأ بها عند اللعب، فتبدا بالبسملة والصلاة على النبي، والدعوة إلى الدعاء والتضرع لله عز وجل ورجائه لتحقيق الأمنيات مثل:
"لو كان السعود تنغرس بالعود نغرس ميات عود وعود في أرضي، لكن السعود بيدك يا الله يا معبود، ياسقام السعود سقملي سعدي".
"امّنت بالله، والمنام رؤية من عند الله، حمامة بيضة جات ترفرف عليّ، معاها حصان توقّف بين يديّ".
"الناس تنده بالرجال والوالي، وانا ننده بربي العالي".
عند البدء تتزيّن النسوة بملابسهن التقليدية، وبأبهى ما تملكن من حليّ فضة أوذهب، يتعطرن، ويحضرن مائدة جميلة عليها مالذّ وطاب من حلويات تقليدية، البقلاوة، المقروط، المحنّشة، المعذبات والقريوش، مرفوقة بابريق الشاي الأخضر بالنعناع والقرنفل، وعلى المائدة النحاسية، تحضر النسوة البوقال "وهي كلمة أمازيغية أصل تسمية البوقالة"، وهو عبارة عن إناء فخاري يوضع داخله ماء، وتحته النافخ أو الكانون ويكون فيه فحم ليبخر البوقال على أنواع العود والجاوي والعنبر، بالإضافة إلى ماء الزَهْروالحناء والشموع، "وكلمة زَهْر باللهجة الجزائرية تعني الحظ".
تجتمع النسوة ويجلسن حول المائدة، وقد ترافقهن عازفة آلة موسيقية أحيانا، قيثارة،عود أو كمان، على ضوء القمر واشعال الشموع، في عتمة وسكون، يجعل المجتمِعات يخلون بذواتهن، ويفكرن براحتهن فيما يردنا عقد الفأل عليه.
ويفرغ داخل البوقال ماء، وتضع النساء خواتمهن أو حليّهن داخل البوقال ويرش بماء الزهر ويغطى بمنديل
تبدأ العارْفة وهي بالعادة امرأة كبيرة في السن تحفظ الموشّحات والأبيات الشعرية والتعابير عن ظهر الغيب، تطلب من الحاضرات أن تعقدن أطراف أثوابهن أو خمرهن، وينوين نيّة ما وينتظرن، ثم تلقي العارْفة على مسامعهن البوقالة، بعد ذكر الله والصلاة على رسول الله، ويطلب من إحداهن أو فتاة صغيرة أن تسحب خاتما واحدا من داخل البوقال، ويكون فأل البوقالة على صاحبة الخاتم، وقد تصرح المعنية بما نوته، أو تكتم سرّ نيتها، وهكذا إلى أن ينتهين جميعهن من العقد والنية، واخراج الخواتم كلّها، ثم يسكب ذلك الماء في وقت متأخر من الليل على السطح أو الشرفة، وبالعادة يسكب على النباتات التي تزين أسطح وشرفات البيوت العتيقة، لإنتظار تحقيق الفأل على زعمهن.
الحديث عن الأحلام والأمنيات بالشعر والقافية
وتبقى البوقالة التقليد النسوي الوحيد البعيد عن السلطة الذكورية تمارسه النسوة ويتسامرن بكلمات عن الحب العفيف والوجد والإنتظار ودعوة الخالق في الإجتماع بالأحباب والزواج، لقاء الأهل والأقارب، والإبتعاد عن الأعداء التي تشعل النسوة شموعا من أجلها، علّا تكون قريت من نور أو شعلة من ضياء يهديهم لطريق العودة إلى بيوتهم وحضن زوجاتهم وامهاتهم ولقاء محبوباتهم: “يا قايدين الشموع هاكو شمعة قيدوها بالاك الغايب يعود والفرحة نعاودوها”. وتخاطب البوقالة المشاعر والوجدان، وتؤرخ ببساطتها للتاريخ العتيق، العامر بالفخر والكلام الموزون الجميل.
كما نجد أن البوقالة لم تخرج يوما عن إطارها العام المتعلق بحبكة الزمان والمكان.
العودة إلى الأصل.. بوقالة وفال زين
قد تتجاوز عدد البوقالات الشعبية المنتشرة حدود 500 بوقالة، غير أن المعروف أنها انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت في كافة أرجاء الجزائر شرقها وغربها، حتى وإن لم تقم بكافة تلك الطقوس، لكن الفتيات خاصة العازبات منهن يدأبن خلال رمضان بممارستها والتسلية مع العائلة، الآن نجد الكثيرات ممن يتحدثن أو ينشرن البوقالات والفأل الحسن على مواقع التواصل الاجتماعي، باختلاف الطرق، مكتوبة مسموعة أو مرئية، كما أنّا أصبحت من العادات التي لابد منها في الأعراس توزعها العروس وهي تحمل سلة فيها قصاصات ورقية مكتوبة عليها البوقالات مرفوقة ببعض الحلوة والمكسرات والورد، وهذا بعد الإنتهاء من "التصديرة"، وهي ارتداء العروس جميع ألبستها التقليدية والتباهي بها أما الحاضور.
في النهاية لا يسعنا إلاّ القول أن البوقالة تبقى جزءا هوما من تراث شفوي جزائري مليء بالزجل الجميل، والتعبير النابع من الإحساس بدرر الأبيات الشعرية التي هي في مجملها تجارب الحياة، أمثال وحكم وتعابير تربىّ عليها اللسان الجزائري الأصيل.
في الختام بكل حب نهديكم هذه البوقالة بعد بسم الله والصلاة على رسول الله:
"رشّيت عتبة الباب بالزهر و الطّيب ، وسقيت كل الأحباب بالعسل و الزبيب ، و كى نسيت جاني جواب كنت نستناه من عند البعيد".